صحة العرب، كيف تبني نموذجها؟

  • click to rate

    ساد في العصر الحديث التصور الحضاري الغربي وأصبح مرجعًا مركزيًا في شتى مجالات الحياة في تفوق واسع وعميق فُتحت له أبواب السيطرة والهيمنة ودعمته المنظمات العالمية في مختلف القطاعات، مما كرّس إخضاع المجتمعات الأخرى لهذا النموذج في مشهد أقرب إلى المنع من التحرر ومن تحقيق مصالح الشعوب بمرجعياتها الخاصة.
    لم يأتِ هذا التفوق الغربي صدفة، بل كان ثمرة جهد بشري طويل وعمل اجتماعي وسياسي دؤوب امتد لقرون، بُني على ركائز من التفكير العلمي انطلاق من عصر النهضة الأوروبية، ثم الثورة الصناعية، فالطفرة التقنية والرقمية. وقد ارتكز على مرتكزات من القوة العلمية والإنتاجية والتسويقية. كما أضافت المرتكزات التنظيمية والاجتماعية الغربية مثل دعم حقوق المجتمع والأفراد في التفكير والإبداع والتعبير. كما أضافت المرتكزات الإعلامية والقدرة على الإقناع والتوجيه والتحكم وتصدير المعلومات والأنظمة والبرتوكولات. وكان ذلك وفق المصالح الاستراتيجية. وقد شمل تصدير تلك النهضة شتى المجالات ومنها المجال الصحي الذي نما في ظل سياقات من القوة والإنتاج والترويج والاحتكار.

    أزمة النمذجة المطلقة:

    وفي الجهة المقابلة ساد لدى المستوردين لتلك النهضة الأخذ غير المتبصر عن الحضارة الغربية الذي -كما يقول مالك بن نبي- لم يميز بين الأخذ بالأشياء والأخذ بالأفكار. فلو سلمنا بالاستفادة من الأشياء والمخترعات كالسيارة والطيارة والهاتف وتطبيقات الهواتف الذكية... إلخ فقد شمل ذلك أيضا الأخذ بالكثير من تصورات الغرب عن الحياة والقيم والمفاهيم وطريقة التفكير في الصحة في حالة من شبه التعطيل لتصوراتنا حول الأسباب الجذرية لمشكلات الصحة والمرض، وطرق تفاعل الأفراد والمجتمعات مع تلك المشكلات.

    تكديس لا تأسيس:

    لقد كدست أنظمة ومؤسسات العالم الثالث منتجات التقدم الغربي في المجال الصحي على شكل منشآت علاجية وتعليمية وبحثية وتنظيمية وبنت معايير الجودة على غرار النموذج الغربي، وأعادت تقديم ذلك التكديس كنموذج مثالي مع أنه وللأسف خلف الكثير من المشكلات والكوارث التي تتعرض لها صحة شعوب الجنوب منذ حوالي قرن من الزمان. فقد شمل نموذج الخدمات الصحية الغربي تهميشا كبيرا للأدوار الوقائية وأدوات تعديل أنماط العيش من داخل النظام الصحي. كما خلط ذلك التكديس بين الأشياء والأفكار والتوجهات العلاجية الصرفة ذات التوجه الرأسمالي الاستثماري بعيدا عن تكامل الصحة بين الروح والعقل والجسد، وبعيدا إلى حد كبير عن الرسالة الإنسانية والأخلاقية لتقديم الصحة التي عرفتها البشرية على مدى الأزمان.

    فاتورة التبعية:

    وقد نتج عن اتباع العالم لهذا النموذج الغربي ما وصلت إليه صحة العالم في وضعها الحالي، وتمثلت بوضوح في انتشار الأمراض المزمنة غير المعدية بما تستدعيه من علاج ورعاية طويلة الأمد وكلفة عالية. ومثلت تلك الأمراض أول أسباب الوفاة وأصبحت تودي بحياة حوالي 41 مليون شخص سنويًا حول العالم أي ما يعادل 71% من إجمالي الوفيات عالميًا. وتشكل أربع مجموعات من الأمراض (أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان وأمراض الجهاز التنفسي والسكري) ما يزيد على 80% من الوفيات المبكرة الناجمة عن الأمراض المزمنة. ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 52 مليون حالة بحلول عام 2030. وتتسبب في تلك الأمراض أربعة أسباب رئيسة، هي تعاطي التبغ، وقلة النشاط البدني، وتناول الكحول، والأنظمة الغذائية غير الصحية، وهي عوامل خطر سلوكية قابلة للتعديل. وفي ظل تلك الحقائق فإن المجتمعات الغربية والعالم أجمع بحاجة إلى إعادة النظر في النموذج الغربي، والتفكير في نموذج بقدم التوظيف الوقائي والشمولي وبفاعلية ملموسة تبطئ هذا التدهور في الوضع الصحي.
    لقد ركز النموذج الغربي في تقديم الخدمات الصحية للأمراض غير المعدية على جهود الكشف والتشخيص والعلاج وعلى الرعاية التلطيفية في نموذج يستهلك الغالبية العظمى من الموارد الصحية. فقد قُدِّرت تكلفة الأمراض غير المعدية عالميا بين عامي 2010 و2030 بنحو 47 تريليون دولار أمريكي ولم يكن للوقاية من داخل النظام الصحي وجود مؤثر في تخفيف تلك الكلفة بل تتزايد الكلفة بمرور الزمن، وأصبحت أعباء تلك الأمراض تفوق قدرات الحكومات على مواجهتها، وزادت احتمالات سقوط الناس في براثن الفقر أثناء سعيهم للحصول على الخدمات الصحية. وستستمر تلك الأعباء في ذلك الارتفاع طالما كانت تُعالج بنفس النماذج وطريقة التفكير التي أنتجتها. وستستمر في ضغطها على الكلفة الصحية طالما تباطأ ابتكار وتوظيف نماذج وقائية ونماذج تركز على تغيير السلوك بطريقة فاعلة. 

    أسئلة للمراجعة الحضارية: 


    بعد ما وصل له العالم من تدهور صحي خلال قرن من الزمان أعاق تحقيق أهداف التنمية المستدامة، علينا أن نتساءل عن مراجعة ما عليه العالم من تبعية في تصوراته عن الصحة والمرض:

    •    هل يحق للنموذج الغربي أن يحتكر تصوّر الصحة ويملي سياساتها عالميًا؟
    •    ألم يُقصِ الفكر الغربي المادي معارف وتجارب جاءت من مصادر إلهية أو من الحكمة التاريخية؟
    •    هل تؤدي القوة العلوم الصحية المادية وحدها إلى الرشد في التوجهات؟
    •    ألم تدفع البشرية ثمنًا باهظًا لاتّباع النموذج العلاجي الغربي دون تساؤل؟
    •    أليس العرب أولى بإعادة بناء نموذجهم بما ينسجم مع ثقافتهم وقيمهم؟
    •    لماذا لا نُعيد الاعتبار لتصوّر الصحة المرتبط بالسلوك والقيم والبيئة؟
    •    لماذا لا نحكّم مرجعياتنا الثقافية عند الاختلاف مع الغرب خصوصا حول البعد السلوكي والنفسي للصحة؟
    •    ماذا لو كان بالإمكان الوصول إلى نموذج وقائي فعّال بتكلفة لا تتجاوز عشر ما ننفقه على العلاج؟

    بدايات النهضة الصحية العربية: 


    لقد أظهرت التحولات الحديثة في علوم الصحة -حتى من داخل الغرب- بوادر تململ من سيطرة النموذج العلاجي الذي يقدم  بشكل آلي خصوصا تلك النماذج المرتبطة بالسلوكيات ونمط الحياة. وقد بدأت الكثير من الدراسات العلمية تعيد الاعتبار لممارسات غذائية وروحية وسلوكية مهملة منها تطبيقات الصيام والتغذية الطبيعية وخفض النشويات وخفض الأغذية المصنعة والنشاط البدني والتأمل والعناية بالصحة النفسية وكلها تتسق بعمق مع تراثنا العربي والإسلامي.
    لقد كانت صحة العرب وأنماط حياتهم أقرب للمثالية، فقد كان العرب مقلين من الأكل وبعيدين عن البطنة، وكانوا ينامون مبكرا ويستيقظون مبكرا ويستمتعون بروابط الأسرة والقبيلة وبالمشي في الصحراء وغير ذلك من أنماط الحياة السوية في هيئة الإنسان وتركيبة جسمه وأدائه الجسدي والنفسي والاجتماعي. ولا يغيب عن البال النموذج الجاهلي الذي قدمه صاحب لامية العرب الشنفرى وافتخاره بهيئته وسلوكه اليومي والترفع عن الشبع والجشع وعن الحاجة للغير وتمثل ذلك في قوله:
    أُديم مطال الجوع حتى أميته        وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل 
    وقد هذب القرآن والرسالة المحمدية أنماط الحياة العربية وألهمهم الاعتدال والوسطية وحدد لهم معالم الصحة. وقد طرحت المزيد من مبررات الاهتمام بالصحة من منظور تاريخ العرب في مقالي  https://s7ty.com/blogs/4/15/- "صحة العرب وطب الحياة".

    ملامح النموذج الصحي العربي:


    ويعيش عرب اليوم في عالم يزيد سكانه على 430 مليون نسمة في 22 دولة ويتحدثون لغة واحدة، وهم جديرون بتوظيف موروثهم العظيم في تقديم نموذج صحي فريد يتكامل مع الطرح العلمي المستجد في التكامل بين الصحة وأنماط الحياة، لكن ذلك يتطلب أدوات أساسية، منها تقديم نموذج صحي جديد متكامل يتطلب تقديم ذلك النموذج عدة أمور منها:
    •    مراجعة مناهج التعليم الطبي وأولويات البحث العلمي.
    •    تحكيم المرجعيات الثقافية والدينية عند بناء السياسات الصحية.
    •    استيعابٌ واعٍ للعلوم الغربية، مع نقدها ونقل ما يتوافق مع قيمنا.
    •    دعم حراك العلماء والمفكرين المستقلين في التعامل مع سيادة التيار العلاجي.
    •    إشراك المجتمع العلمي والأكاديمي والمدني في تشكيل الرؤية الصحية.
    •    توظيف الإعلام والتقنيات الحديثة للتوعية بالأنماط الصحية الوقائية. 

    ولن تكون تلك المحاولة جديدة على الأمة العربية، فقد اهتم العرب بأعمال أطباء الأمم الأخرى من الإغريق والرومان أمثال أبقراط وجالينوس ونقلوها للعربية في العصرين الأموي والعباسي وأخذوا المشترك الإنساني، وطعموها بمعطيات حضارتهم على أساس من التفاعل الواعي في الأخذ والترك، وعلى توظيف المقاصد الخمسة في حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال. وصنعوا "دستورا" أو بروتوكولا للطب في بعده العلاجي والوقائي كما يقول الدكتور شوقي الفنجري في كتابه (الطب الوقائي في الإسلام). 
    تجسير لا قطيعة:
    وليس المطلوب بناء نموذج يقوم على المقاطعة بل إلى التجسير بين العلوم الصحية الحديثة وبين التراث العربي والإسلامي وبنموذج معرفي يوظف العقلية التراثية الإسلامية وطرق تفكير العلماء والفقهاء التي توظف آليات الفهم والتجريد والاستنباط. كما ينبغي أن يركز النموذج أيضا على حفظ الصحة الموجودة وليس فقط استعادة الصحة المفقودة.

    نحو مشروع نهضة صحية عربية:


    إن أخذ زمام المبادرة لبناء هذا النموذج يتطلب تحررًا من التسليم الأعمى بالواقع، واستثمارًا واعيًا لمواردنا المادية، وتراثنا العلمي وهويتنا الحضارية. فمدرسة الغرب الصحية –رغم إنجازاتها– قد عولمت المرض أكثر مما عولمت العافية، ووسّعت من سيطرة العلاج على حساب الوقاية.
    لقد آن الأوان لبناء نموذج صحي عربي: متوازن وتراحمي وشامل ومستدام. نموذج لا يهدف إلى تحسين جودة الحياة فحسب، بل إلى إعادة تعريف معنى الصحة نفسها في ضوء قيمنا.

    ودمتم سالمين
    د. صالح بن سعد الأنصاري

    @SalihAlansari
    مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
    المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
    @SaudiHPC