مؤخرا، تعمقت كثيرا في مكافحة الأمراض المزمنة واستمتعت بالعمل في التوعية الصحية وتعزيز الصحة على أرض الواقع. ولدي قناعة -قد تبدو متفائلة أكثر مما ينبغي- بأن "هزيمة" الأمراض المزمنة قضية في متناول اليد وخلال أعوام قليلة نسبيا. وذات يوم، كنت أناقش أحد زملائي الأطباء، وهو أحد "أساطين" السكري في السعودية، وكنت حينها فقلت له في ذروة النقاش: اسمح لي بان أقول بأن السكري في بعده المجتمعي، وما وصل إليه من انتشار وتعقيدات ما هو إلا مجرد نكتة" فنظر إلي شزرا وكأنه يتساءل، فقلت: هو نكتة لأننا لم نتعامل معه بالاستراتيجيات الوقائية بطريقة علمية، وإلا لما تفاقم ولا زادت شراسته حتى أصبح يفتك بالكثير منا ويضغط بقسوة على التكاليف الصحية بينما هو مجرد أحد الأمراض المزمنة المتعلقة بالنمط المعيشي، ويمكن الوقاية منه.
وكأي طبيب تمرس في العمل العلاجي والسريري، وليس له تعمق في التدخلات الوقائية أو استراتيجيات تعزيز الصحة والتوعية الصحية والصحة العامة استمع زميلي الى "تمتماتي" وأظهر حاجباه لمحة استغراب. وبدون تعليق على تمتماتي اقترح علي أن "اكتب اقتراحا" وأرفعه لأحد الجهات المعنية.
دعوني أتوقف عن قصة زميلي الطبيب واجعل "ابو فيصل" يحدثكم عن قصة نجاته من السكري واستغنائه عن أدوية السكري بعد أن وصلت قراءة السكر التراكمي لديه لحوالي ضعف النسبة الطبيعية لمدة تتراوح بين 6 و 12 شهر متواصل.
يقول "أبو فيصل" أحياناً تتحول المِحَن إلى منح من الله فتصلح بها أمور أفسدتها عاداتنا وأساليب حياتنا، وزاد وطؤها بسبب ضعف وعينا. ففي أحد أيام نهاية الأسبوع من أبريل عام 2016 وكان عمري حينها اثنان وخمسون سنة، وكنت قد تناولت طعام العشاء في استراحة مع بعض الزملاء واتبعته ببعض الحلويات ومضت الأمور كالمعتاد، إلا أنني لاحظت أنني أحسست بالعطش، وشربت كمية أكبر من المعتاد من الماء، وكنت أشعر بالإرهاق والتعب العام. فخطر ببالي أن أقيس نسبة السكر في الدم وذلك لأول مرة في حياتي، فلست مريضاً بالسكري. لكن الصدمة جاءت مؤلمة، فقد وجدت مستوى السكر في الدم 330 ملجم، وأنا الآن مريض سكري.
أزعجني الأمر كثيراً فاتصلت بطبيب صديق وذكرت له ما حدث، فحاول أن يطمئنني وأشار بضرورة فحص نسبة السكر التراكمي وبعد يومين جاءت الصدمة الثانية، فقد ظهرت نسبة السكر التراكمي 10% وشرح لي الطبيب ان معنى هذا أن نسبة السكر في الدم كانت مرتفعة خلال مدة تتراوح بين 6 أشهر وسنة وبنسبة تقريبية بحوالي 200 ملجم يومياً، وهذه حالة سكري واضحة، ولابد من بدء العلاج. وقد حاولت أن أتهرب من تناول العلاج وأن أعد طبيبي بالحمية والرياضة، إلا أنه رفض وأصر على بدء العلاج إضافة الحمية والرياضة، وذلك بسبب ارتفاع السكر التراكمي.
كان مصدر قلقي من السكري راجعا لسببين، الأول أنني في عام 2010م تبرعت بإحدى كليتي لأختي وأعي بوضوح تأثير السكري على الكلى. والسبب الثاني أن لي تجربة عشتها عن قرب مع أمي (رحمها الله) ومعاناتها مع السكري وكيف أنه كان له ومضاعفات أخرى.
جلست مع نفسي وأعدت حساباتي وقررت تغيير نمط حياتي وأن أجعل لرياضة المشي نصيباً فيها وغيرت نمطي الغذائي، وأضفت مادة السكر ومشتقاته إلى قائمة الممنوعات، وتجنبت الأطعمة التي ترفع معدل السكر في الدم وركزت على المشي والدراجة. ومما ساعدني كثيراً على الاستمرار والتحفيز انضمامي لمجموعة مشاة الرياض الذين ينظمون نشاط مشي جماعي مرتين أسبوعياً، وينشرون أفكار تعزيز الصحة والتوعية الغذائية. كما انضممت إلى مجموعة دراجتي السعودية ونشاطها الأسبوعي واستفدت من التعليمات التي يقدمونها للمشاركين حول ثقافة الدراجة، إضافة الى التحفيز الذي وجدته من وسائل التواصل الاجتماعي، والتشجيع الذي وجدته من أسرتي ودورهم في ضبط التغذية والتجاوب لأفكار التغذية الصحية في البيت. فمن حسابات التواصل الاجتماعي التي كان لها دور في نجاحي والتحول نحو تعزيز الصحة والمشي حساب د. صالح الانصاري، أما في التغذية الصحية، فقد استفدت أيضا من حساب المهندس حسان الفلو وحساب مشاة الرياض وحساب "اتنفس المشي" على تويتر.
لقد كان أكبر تحدٍ واجهته هو تغيير نمط الحياة اليومية سواء في التغذية أو الاستمرار على ممارسة الرياضة، لكن بعد مرور ثلاثة أشهر أعدت قراءة السكر التراكمي وكانت النتيجة قد نزلت إلى 7% مما أعطاني دافعاً وحفزني على الاستمرار. وبعد 6 أشهر أعدت التحليل فوجدته أقل من 5%. وخلال ستة أشهر فقدت من وزني الزائد ما يقارب 25 كيلو، وحالياً أوقفت العلاج نهائياً وذلك بعد استشارة الطبيب.
وقد بدأت المشي بمسافة 3 كلم أقطعها ببطء كبير وخلال 60 دقيقة وكنت أكرر ذلك من 3 الى 4 مرات في الأسبوع. ثم تدرج بي الحال خلال 6 أشهر إلى أن وصلت الى المشي مدة ساعة إلى ساعة ونصف من 5 الى 6 مرات في الأسبوع. وبلغ أطول مشوار مشي قطعته متواصلاً 45 كلم في يوم واحد وذلك مع مجموعة مشي المسافات الطويلة في وادي حنيفة من مشاة الرياض. اما الدراجة فبدأت مع مجموعة دراجتي السعودية في تمرينهم للمبتدئين يوم السبت بمسافة 10 كلم وتدرجت الى أن قطعت أطول مشوار متواصل بالدراجة مسافة 50 كلم في يوم واحد.
وأصبح الإفطار وجبة رئيسية عندي، علما بأنني أمضيت فترات طويلة من عمري وأنا لا أفطر وبالتالي يضطرب جدولي في تناول الوجبات بقية اليوم. واستمريت في منع السكر ومشتقاته. أما الخبز فكان من إعداد منزلي ومن البر والشوفان. أما الأرز فأتناوله أحياناً يوم الجمعة فقط، وأصبحت أكثر من تناول الخضار والفواكه والسلطات في الغداء. أما وجبة العشاء فقد ألغيتها من البرنامج اليومي واستبدلتها بوجبة خفيفة وصحية.
أنصح الجميع بمتابعة النشطاء المحفزين والتعرف عليهم، كما أنصح بالمشاركة مع مجموعات لها نفس الاهتمام الصحي والرياضي. ومما أود توضيحه للقارئ بأن الحياة الصحية لا تعني الحرمان، فالغذاء غير الصحي يمكن الاستغناء عنه ويمكن التعامل مع الجوع ببديل صحي، وأنه إذا اتضحت الرؤية وقوي الحافز فإن ممارسة رياضة المشي لها من الفوائد النفسية والجسمية ما يطول شرحه، وسيظهر أثرها بعد فترة قصيرة من الانتظام في ممارستها.
وأقول للمبتدئين: الوقاية خيرٌ من العلاج، فاكتشف نفسك واعرف هوايتك وميولك في اختيار الرياضة، واصنع سعادتك بنفسك واعلم أنك الوحيد المسئول عن حياتك، وحاول ألا يمر عليك يوم دون ممارسة نشاط رياضي.
ولله الحمد لم اذكر أن كانت هناك لحظات يأس أو انتكاس، مع أني لاحظت مشكلة ثبات الوزن لكني تعلمت أن الرقم على الميزان لا ينبغي أن يشكل هاجساً كبيراً، إلا أن مستوى السكر في الدم كان هو همي ومقياسي للتحسن، فقد مرت علي أوقات أحلل 5 مرات واكثر في يوم واحد...
أخوكم،،،، أبو فيصل.
انتهت قصة "أبو فيصل" ولم تنته "نكتة السكري" في حياتنا، وللحديث بقية. فلو أثبتت قصة "أبو فيصل" (وأمثالها كثير) أن لوسائل التواصل الاجتماعي والعمل التطوعي في نشر ثقافة المشي والدراجة ونشر الوعي الغذائي أثر في انتهاء السكري من حياة أبي فيصل، فاسألوا صديقي طبيب السكري؛ ما الذي سيحدث لو استثمرت ودعمت هذه الجهود ورُشِدت بالعلم وببعض الموارد؟ وكيف لو انطلقت من الأطباء ولو أضيفت لها آليات التوعية المدرسية والإعلامية، ودعمت بالحوافز الملائمة وعلى أسس علمية،،،، اعتقد انه لو حدث ذلك،،، حينها سنصدق أننا كنا نعيش "نكتة" اسمها السكري.
ودمتم سالمين
د. صالح بن سعد الأنصاري
@SalihAlansari
مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
@SaudiHPC