كتبت ذات يوم في منصة إكس/تويتر، هل تعرفون "صانع الأرامل"؟ إنه الشريان التاجي الأيسر الأمامي النازل (Left Anterior Descending) وهو شريان يغذي أهم جزء من عضلة القلب في جهة البطين الأيسر الذي يقوم بأهم جهد من ضخ الدم إلى كافة أنحاء الجسم. وفي حالة انسداد هذا الشريان بسبب جلطة أو تضيق مفاجئ فإن إنقاذ حياة المريض قد يستدعي التدخل الطبي خلال خمس دقائق وإلا تسبب توقف وصول الدم في الوفاة بسبب فشل ذلك الجزء من القلب في ضخ الدم. ولذلك سمي "صانع الأرامل"
وقديماً قال "أبو الطب" أبقراط "المشي أفضل علاج للإنسان" وهذه المقولة تشمل صحة القلب وبشكل مميز من بين بقية الرياضات. فالمشي أفضل رياضة معتدلة الشدة يمكن أن تحسن الصحة عموما وصحة القلب خصوصا. فالدراسات تشير إلى أثر المشي في خفض خطر الإصابة بأمراض شرايين القلب بين الرجال الذين يمارسون المشي لمسافة أكثر من ميل في اليوم، وبين النساء اللاتي يمارسن المشي بمعدل 3 ساعات في الأسبوع. فقد أكد البروفيسور الألماني، ديتريش أندريسين (عضو مؤسسة القلب الألمانية) أن المواظبة على ممارسة المشي بانتظام تحافظ على صحة القلب. وأضاف أندريسين أن المشي 7000 خطوة يومياً يحدّ من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، مُشيراً إلى أن المعدل المثالي للمشي اليومي هو 10000 خطوة، بحسب أحدث الدراسات العلمية.
ولتحقيق استفادة مؤثرة من المشي شدّد البروفيسور الألماني على أهمية قطع مسافات طويلة نسبياً دفعة واحدة، وعلى سبيل المثال أشار إلى أن المشي 20 دقيقة بمعدل مرة واحدة يوميا أو 30 دقيقة بمعدل خمس مرات أسبوعياً. كما أكد أندريسين على أهمية المشي بخطى حثيثة من أجل صحة أفضل للقلب. إضافة إلى أنه قد ثبت بالدراسات أن المشي 150 دقيقة في الأسبوع يقي من الإصابة بالسكّري من النوع 2 بنسبة 58% وتأتي أهمية الوقاية من السكري في ظل المعلومات المؤكدة التي تشير إلى ارتفاع خطورة الإصابة بأمراض شرايين القلب مع زيادة مدة الإصابة بداء السكري. كما جاء في مراجعة د. أماندا بولاش وزملائها في مجلة نورويسترن ميديسن عام 2023 أن كبار السن (60 عامًا فما فوق) الذين يمشون ما بين 6000 إلى 9000 خطوة يوميًا لديهم خطر أقل بنسبة 40٪ إلى 50٪ للإصابة بأمراض الأوعية الدموية مثل النوبة القلبية والسكتة الدماغية مقارنة بأولئك الذين مشوا 2000 خطوة أو أقل يوميا.
ومن المعروف أن المشي السريع يمكن أن يرفع نبضات القلب الى "نطاق اللياقة" لحماية القلب من أمراض شرايين القلب، وهو الحد الذي يجب أن ترتفع إليه ضربات القلب أثناء المشي لتحسين اللياقة القلبية التنفسية (ويساوي 65% إلى 85% من الحد الأعلى المسموح به من ضربات القلب) ويحسب الحد الأعلى المسموح به بإنقاص العمر من 220. فعلى سبيل المثال فإن نطاق اللياقة لشخص عمره 40 سنة يقع بين 117 و 153 نبضة في الدقيقة، ويوصى لحسابها بلبس ساعة أو سوار رياضي لمتابعة ضربات القلب أثناء المشي لمعرفة ما إذا كانت شدة المشي مفيدة لصحة القلب أم لا.
كما أن من المعروف أن الرياضة عموماً تؤدي مع مرور الزمن إلى تحسن أداء عضلة القلب وبالتالي بطء ضربات القلب أثناء الراحة، وقد أثبتت إحدى الدراسات أن بقاء معدل ضربات القلب أثناء الراحة أقل من ٧٠ في الدقيقة (بسبب الرياضة المنتظمة) على مدار ١٠ سنوات يقلل وفيات شرايين القلب. بل إنه أحد المؤشرات التي تستخدم في التنبؤ بوفيات القلب.
ومن أسرار رياضة المشي أنها ترفع ضربات القلب بنسق متساو طوال مدة ممارستها، وهذا النسق هو الأفضل لصحة القلب مقارنةً بالرياضات التي تتفاوت فيها ضربات القلب صعوداً وهبوطاً. ورياضة المشي من أنسب الرياضات التي يمكن التوصية بها لمرضى القلب وذلك لمناسبتها لضعيفي اللياقة ولأكبر سنا ولمرونتها من حيث الشدة والمدة والمسافة لتراعي كل حالة بحسبها.
كما أن ممارسة المشي بانتظام يعود إيجابا على بقية عوامل الخطورة التي تتداخل بعمق مع أمراض شرايين القلب. ومن هذه العوامل التي يحسنها المشي المنتظم؛ السمنة بما فيها شحوم البطن الأخطر على القلب، ومنها أيضا تحسين ارتفاع ضغط الدم، وخفض سكر الدم لدى مرضى السكري، كما ثبت أن ممارسة المشي بانتظام تعين على الإقلاع عن التدخين كعنصر خطورة من عناصر أمراض شرايين القلب وخفض اضطراب الدهون الثلاثية والكوليسترول الجيد وتقليص مقاومة الانسولين وتحسين صحة الشرايين، إضافة إلى تعزيز الطاقة وتحسين المزاج والمساعدة على التفكير بشكل أكثر وضوحا وتحسين جودة النوم وتقليل الالتهابات في جميع أنحاء الجسم، والمشي يحسن كل هذه المشكلات التي تحسن صحة القلب.
تشير الكثير من المراجعات العلمية إلى أن المشي كرياضة يمثل استراتيجية واعدة لتحقيق فائدة صحية للقلب والأوعية الدموية لدى الذين يعانون من السمنة المفرطة والفئات الأقل احتمالًا وإقبالا على الرياضة. وقد ثبت أن المشي كرياضة أحد أهم عناصر الوقاية الثانوية للمرضى بعد تشخيص إصابتهم بأمراض القلب والأوعية الدموية، ويأتي ضمن التوصيات الحالية لدمج المشي ضمن تمرينات إعادة تأهيل القلب التي تعتمدها جمعية القلب الأمريكية وتوصي بها كوسيلة للتقدم التدريجي لكثافة التمرينات منعا لإصابات القلب والأوعية الدموية الحادة عند المرضى ذوي اللياقة البدنية المنخفضة. وقد وجد د. هامر وستاماتاكيس أن المشي كان مرتبطًا بانخفاض خطر الوفاة بسبب الأمراض القلبية الوعائية لدى الرجال والنساء الأسكتلنديين المصابين بأمراض القلب والأوعية الدموية. كما وجد الطبيبان الاسكتلنديان بعض الأدلة على أن التأثيرات الوقائية للمشي على القبل أقوى لدى مرضى السكري وحالات ما قبل السكري. وغني عن القول بأن من المهم جدا لمرضى الأمراض المزمنة عموما ومرضى القلب خصوصا أن ألا يبدأوا المشي لمسافات طويلة أو بسرعات عالية. كما يجب عليهم استشارة الطبيب المختص قبل البدء بممارسة الرياضة وباستشارة متخصص في طريقة البدء من حيث المدة والمسافة والسرعة ولوضع جدول التدرج في ممارسة المشي، وخلال عدة أسابيع وليس فجأة.
وهناك مميزات تخص المشي لوصفه لصحة القلب، فهو لا يتطلب مهارات أو مرافق خاصة وممكن لجميع الفئات العمرية وهو الرياضة الأقل خطورة في حدوث الإصابات، كما أنه ترتفع فيه فرص الانتظام بشكل أفضل من التمارين الأخرى مثل الهرولة وركوب الدراجة، وهو أكثر أنواع النشاط البدني شيوعًا بين البالغين كتمرين معتدل الشدة الممكنة، ويمكن مراكمتها طوال اليوم للوصول إلى هدف 150 دقيقة في الأسبوع، كما يمكن دمجه في الحياة في التنقل النشط ويمكن اعتماده واستدامته أكثر من برامج التمارين التقليدية فالمشي هو النشاط الأقرب إلى التمرين المثالي.
ختاما. إن مقولة أبقراط "المشي أفضل علاج للإنسان" هي أكثر مقولة يجب أن يرددها الأطباء عموما، وأطباء القلب خصوصا لمرضاهم.
ودمتم سالمين
د. صالح بن سعد الأنصاري
@SalihAlansari
مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
@SaudiHPC