نشأ الكثير من طلاب الطب والكليات الصحية على بذل الجهد في استرداد الصحة المفقودة ودراسة البدائل المتاحة ومتابعة آخر التطورات الطبية التي قد تعطي الأمل في مساعدة المرضى. ويتلقى الدارسون هذه العلوم من منطلق أخلاقي راقي فتجدهم يميلون لأفضل حل يمكن أن يخفف من معاناة المريض حتى لو كلف الكثير من الأموال. ويتكرس هذا التوجه الإنساني يوماً بعد يوم لدى العاملين في الميدان الطبي بمعايشة المرضى والمرض بشكل يومي. وهذه المعايشة قد لا تتيح لنا أن نطالبهم كثيراً بالرجوع إلى الوراء قليلا والتفكير في الأسباب وأصول كل مشكلة صحية ولماذا حدثت، وهل كان من الممكن الوقاية منها، عدا عن أن نطالبهم بأن ينشغلوا بالعمل على الوقاية بأدوات مجتمعية لم يتعلموها في الكليات الصحية كما ينبغي. وإذا وجدنا العذر للعاملين في الميدان الطبي في ضعف التركيز على الوقاية، فما هو العذر الذي نجده للقائمين على التخطيط الصحي وإدارة القرارات والسياسات الصحية؟
أوضح في هذا المقال لماذا يجب ان نهتم بالجزء الأولى من خدماتنا ومصروفاتنا الصحية ألا وهو الوقاية، وأجيب على سؤال، لماذا اهتم بالوقاية؟ ومن إجاباتي على هذا السؤال ما يلي:
على الرغم مما يبذل من جهود في تطوير الأنظمة الصحية وتحويل لمسارات العمل، فلا زال هناك من يقاوم الصرف على الوقاية بحجة أولوية وإلحاح التدخلات العلاجية وأولوية إطفاء الحرائق بينما يبدو أن منحنى الأمراض المزمنة ولا الكلفة العالية تتجه نحو الانخفاض. ولا أعتقد أن بالإمكان ملاحقة تعقيدات تلك الأمراض علميا وتقنيا وماليا بتوجهات علاجية أو بأدوات وقائية لا تؤتي أكلها في خفض المنحنيات والكلفة في الواقع المنظور، ولابد أن نسأل إلى متى ينبغي أن ننتظر انخفاضها بينما المصروفات مستكرة وفي تزايد مضطرد، ولا يوجد أمامنا "شيك على بياض" للصرف على الخدمات الطبية.
ولأن الغرب في الكثير من الدول التي تهتم بالوقاية يمعن في نقل التقنيات والأدوات والمفاهيم العلاجية إلينا وبدوافع استثمارية بينما تهتم أنظمته أكثر بالوقاية، وينجز خطوات أوسع في إنقاص معدلات الأمراض المزمنة. فعلى سبيل المثال فإن أكبر شركة طبية في الدنمارك (نوفو نوردسك) التي تماثل قيمتها إجمالي الناتج القومي المحلي في الدنمارك والتي تصدر للعالم أهم وأحدث أدوية الأمراض المزمنة بينما تضع الدنمارك "التغذية الصحية" على قمة أولوياتها الصحية. بل أصبحت بعض الدول تحتفل بإقفال المستشفيات وتوزيع مواردها على خدمات الرعاية الصحية الأولية التي تقوم على مفاهيم حفظ وتعزيز تعزيز الصحة والاكتشاف والتدخل المبكر. كما أن بعض الدول التي تقدمت في تطوير الوقاية وتعزيز الصحة قد يصل ما تصرفه على الوقاية إلى حوالي 5% من مصروفات الصحة، ولو نقلنص الصورة والأرقام لدينا فقد يكون علينا تخصيص ما يقارب خمسة مليارات ريال من مصروفات الصحة سنويا على الوقاية. وأهنم بالوقاية لأن الغرب الذي نلهث خلف الحديث من تقنياته العلاجية هو نفسه ممثلاً في منظماته البحثية والإحصائية يصنف الدول النامية المستوردة لتقنياته في ترتيبات متأخرة في مؤشرات الوقاية وانتشار مشكلات يمكن الوقاية منها وعلى رأسها الأمراض المزمنة.
ولأن التعليم الطبي الذي تتلمذ عليه أكثر صناع القرار الصحي كان يتحدث عن نسب متدنية من الأمراض المزمنة في ذلك الحين، وما لبثت تلك النسب في التزايد وأصبحت تكلف المزيد. فعلى سبيل المثال أذكر حوارا دار بيننا كطلاب في كلية الطب في مطلع الثمانينات حول نسبة السكري في المملكة وما إذا كانت تمثل 4 أو 6% فقط، وهي اليوم مرتفعة بنحو صاروخي وغير مسبوق. وقد تعلمنا الطب في تلك الأيام على أيدي أساتذة كبار كانوا يعملون تحت ضغط أقل من هذه الأمراض فأبدعوا في ممارساتهم وفي تعليمنا الاهتمام بأخلاقيات الطب زإعطاء التوعيو والنصح مكانا كبيرا في التعليم الطبي. وأخشى في ظل تزايد تلك الأمراض أن تجد الأجيال التي جاءت بعدهم نفسها في حلقة مفرغة من تزايد الحالات وضيق الوقت وارتفاع التوتر والاحتراق الوظيفي وصعوبة في التعامل مع تزايدها وتزايد تعقيداتها. ولأني عايشت العمل في إدارات الخدمات الطبية فقد رأيت كيف يتسارع الطلب على الخدمات الطبية، ويتسارع التطور العلمي والتقني وتتسارع معه كلفة الخدمات والسلع الطبية يوماً بعد يوم.
وأهتم بالوقاية لأنه وبكل المقاييس الوقاية ليس فقط خير من العلاج بل أرخص من العلاج وأسعد من العلاج، فالوقاية تمنع الألم والمعاناة من الجدوث في المقام الأول، وتقترب بالإنسان من تكامل الصحة النفسية والاجتماعية والسعادة التي يحتاجها مع تقدم العمر. ولأن الوقاية التي نحن مطالبون بها تتوافق مع ثوابت عظيمة في حياتنا ويتوافق عليها الغالبية الساحقة منا، وهي ثوابت الدين الذي جاء بمنهج بحفظ الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والنسل والمال) وكل هذه الضرورات ليست بعيدة عن حفظ الصحة. والمتأمل في الطب النبوي يجد الكثير من مفاهيمه تقوم على أسس الوقاية.
وأهتم بالوقاية لأن استجابة المجتمع لمحتويات وفعاليات الوقاية والتوعية الصحية وتعزيز الصحة إيجابية إذا مورست على أسس علمية وإيجابية وملائمة لمعطيات المجتمع.
وأهتم بالوقاية لأن الوقاية ستقلل من حاجتنا إلى كل الكوادر الطبية وبإعداد كبيرة وتحت الحاجة الماسة وضغط تزايد الأمراض، فالاهتمام بالوقاية لن يجعلنا بحاجة إلى كل غث وسمين من هذه الكوادر. وأهتم بالوقاية لأنها تطالب بمجتمع صحي عالي الثقافة صحيح البدن والروح. مجتمع أكثر إنتاجية. قارن ذلك بمجتمع تقترب نسبة السكري فيه من حوالي 70% لدى من بلغ أشده وبلغ أربعين سنة.
وأهتم بالوقاية لأن لي تجربة ثرية في تعزيز الصحة والصحة الوقائية والصحة المدرسية اثبتت نجاعة التوجه الوقائي. كما أن لي تجربة في نشر ثقافة المشي ومكافحة الأمراض المزمنة. وتجربة طويلة في دعم ونشر قصص النجاح التي أنشرها في منصاتي في التواصل الاجتماعي ومنها ما نشرته في منصة إكس على حساب (@WalkStoriesKSA) ويمكن تكرار هذه القصص وتطوير أدوات التوعية والتحفيز التي وظفتها بمحتوياتها بشكل أكثر مؤسسية.
وأهتم للوقاية لأننا بتكريس الأغلبية الساحقة من مواردنا الصحية للعلاج، قد نفترض أننا نقدم خدمات لمجتمع لا يمكن أن يستوعب أفكارا من قبيل تغيير النمط المعيشي ولا يستفيد من فعاليات التوعية الصحية. ولو كان لدينا شعور من هذا القبيل فهذا هو التحدي الحضاري الحقيقي، فالتعامل مع السلوك عمل العقول وليس المكائن، والمطلوب إشراك المواطن في المسئولية عن صحته. وليس على طريقة "عليكم أنتم أن تصلحوا ما بي" (Fix me). واهتم وأطالب بالوقاية لأن الأمة أمامها مهام كبيرة وحضارية مختلفة عن اللهاث وراء الأدوية والمستشفيات، بل هي مهام تحتاج إلى الإنسان " القوي الأمين" المبدع وهذا من أهم ما ترمي إليه مفاهيم تعزيز الصحة.
ويجب ان نهتم بالوقاية لأننا بحاجة ماسة لهذه المليارات التي تنفق في اللهاث خلف العلاج لاستثمارها في جوانب أخرى أمثل. ولأنني أرى في المستقبل "ورطة" في تشغيل كل المنشآت والمدن الطبية في حال تقلصت مواردنا لأي سبب لا سمح الله. وكيف بنا والإحصاءات المتوقعة للأمراض المزمنة مستقبلاً في ازدياد، فنسبة زيادة الوزن والسمنة تصل الى حوالي 65% ولو استمر تزايد معدلات الإصابة بالسكري حسب النسب الحالية فمن المتوقع أن تصل نسبة السكري بين السعوديين إلى حوالي 50% بحلول عام 2030م.
وخلاصة القول في أهمية الاهتمام بالوقاية أن حفظ الصحة الموجودة أولى وأرخص وأسعد من استرجاع الصحة المفقودة.
ودمتم سالمين
د. صالح بن سعد الأنصاري
@SalihAlansari
مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
0المشرف العام على مركز تعزيز الصحة بالرياض
@SaudiHPC