كنا نتعلم في صغرنا الحذر من الجوع وتصورنا أنه قد يتسبب في ضعف أو "موت" الإنسان. وقد تسهر الأم حتى الواحدة صباحا لتطعم أطفالها لئلا يناموا جائعين، وفي السن المدرسية قد لا يفطر الأطفال في البيت لكننا نحرص على إعطائهم مصروف المدرسة لئلا يجوعوا. وتتمحور مناسباتنا ولقاءاتنا الاجتماعية حول الأكل، وتتوزع وجباتنا اليومية بين الأكل صباحاً وظهرا وعصراً و "وجبة رابعة" بعد المغرب، ووجبة خفيفة سادسة قبل النوم وبعد وجبة العشاء. وأحيانا نأكل أمام التلفزيون حتى ساعات الفجر. وفي السفر نحسب حساب الأكل في السيارة لئلا نجوع، ومع ضيوفنا نبالغ في حجم الأكل حتى لو كان الضيوف "أهل بيت" فيفيض أربعة أخماسه وذلك خوفاً من أن يجوع الضيوف. ونأكل فتتوسع المعدة، ونأكل فندمن السكريات والنشويات، ونأكل إلى أن ندمن الأكل إدمانا اجتماعياً.
هناك فرق بين "الشعور بالجوع" الذي يبدأ بعد حوالي بضع ساعات من آخر وجبة وسببه هبوط مؤقت في هرمون اللبتين. وهو مجرد شعور بالحاجة للطعام. أما "آلام الجوع" وتقلصات المعدة فلا تحدث عادة إلا بعد 12 إلى 24 ساعة من آخر وجبة. وهذا الشعور بالجوع يزداد أكثر مع نقص سكر الدم، وتصل هذه التقلصات إلى ذروتها بعد 3-4 أيام. أما الشعور بالرغبة في الأكل الذي يتكرر عدة مرات يوميا فما هو إلا فكرة تخطر ببالنا عندما نفكر في الأكل أو نشم رائحته أو نراه أو نرى إعلانا عنه. ولذلك فالجوع مجرد فكرة يمكن تأجيلها أو إلغاؤها، ولا أدل على ذلك من الشعور بالجوع عصرا في رمضان والذي يمر بسلام بدون الأكل.
إن الشعور بالجوع الذي ينتاب بعضنا نتيجة فيسيولوجية طبيعية يمكن أن يفسرها تكرار الوجبات وتكرار تناول السكر والنشويات المكررة التي تسبب ارتفاع وانخفاض هرمون الإنسولين. ولعل اضطراب ثقافة الأكل والخوف من الجوع أحد الدوافع لدى العاملين في مجالات التغذية والتوعية الغذائية وفي الإعلام الجديد إلى "التقرب" إلى الناس بـ "الأكل الصحي" والوجبات الصحية والوجبات الخفيفة من حين لآخر، وفي مظهر لا يخلو من كسر لعيون الفقراء والجوعى من حولنا.
وهذا الشعور يجب تحمله والتعايش معه. أما المخمصة و"آلام الجوع" فقد تظهر بعد ثلاثة إلى أربعة أيام. أما المسغبة فتستمر مدة أطول وهي المجاعة.. ولأننا وللأســـف نضيف إلى كثـــرة الأكــل وتكــراره الخمــول وقلــة النشـــاط البـدني الذي يغير الشهية الطبيعية، فنعود إلى الأكل هرباً من "الجوع" مرة أخرى.
وهناك فرق كبير بين ذلك الشعور المؤقت بالجوع وبين المخمصة والمسغبة. فالشعور بالجوع طبيعي ومؤقت ومطلوب لاكتمال المرحلتين الطبيعيتين للأيض (Metabolism): مرحلة الهدم (Catabolism) الذي يجب أن تستمر ما بين 14 و 18 ساعة يتخلص الجسم خلالها من الخلايا التالفة و "النفايات" و "السموم" والدهون الزائدة، ومرحلة البناء (Anabolism) التي ينشط فيها هرمون النمو فيعوض الجسم خلالها بناء ما انهدم من خلايا ومكونات تالفة. وأثناء الجوع يبدأ الجسم في تنظيف الأمعاء والكبد والدم من السموم وينشط المناعة إضافة إلى عشرات الفوائد الصحية. والتعايش مع الجوع هو الذي جعل العربي الأول يظهر ببطن مسطحة ذات مربعات دون أن يعرف النوادي الرياضية أو ممارسة تمارين البطن. وعادة ما يكون الجوع من وصايا الحكماء. ويقول أجدانا "العافية في أطراف الجوع"
وللأسف أن بعض "المتخصصين" ينصحون بالانتظام في ثلاث وجبات رئيسية وقد يضيفون إضافة وجبتين أو ثلاثة وجبات خفيفة لأن ذلك يعطي الجسم "حاجته" وينظم الشهية ويقلل الشعور بالجوع وبالتالي "تجنب السمنة"!! وهناك فهم مغلوط للشعور الطبيعي بالجوع يصاحبه ضعف في الإعلام والتربية بل رضوخ لتوجهات الإعلانات التجارية التي كثيراً ما تستثمر الشعور الطبيعي بالجوع بإبداع واحترافية في الترويج للمأكولات وإعطاء الانطباع بـ "خطر" الجوع.
وفي المؤتمرات حتى الطبية منها لا يظهر من طريقة إدارة المؤتمر ما إذا كان يديرها متخصصون صحيون أم متعهدو الأغذية. وقد يفسر "فخامة" ما يوفر للحضور من أغذية أن تلك الوجبات الثقيلة إحدى حوافز الحضور بينما نلاحظ في الكثير من المؤتمرات العلمية الدولية تقديم وجبة خفيفة في علبة صغيرة وقت الغداء.
وفي خطاب الله تبارك وتعالى لسيدنا آدم في الجنة دار النعيم قال سبحانه "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى" فلم يعدْه سبحانه وتعالى أو يُغْره بالشــبع، بل اكتفى بـ "ألا تجوع" فقط. ويقــول رســول الله صــلى الله عليــه وســـلم "ما مــلاً ابن آدم وعــاء قط شــراً من بطنــه" ويقــول "بحســب ابن آدم لقيمــات يقمن صلبه" أي تمنــعه من الســقوط من شـــدة الجوع، بل بلقيمات تكفيه لسد الرمق. وقال صلى الله عليه وسلم "فإن كان ولابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" وفي هذا إشارة إلى أن ملء ثلث المعدة من الإسراف وإشارة إلى ضرورة وضع حد للشبع.
وقد اختار الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، العيش حياة لا تبتعد عن الجوع أبداً، فعن عائشة رضي الله عنها: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض". وقد ألف ابن أبي الدنيا كتابا في الجوع أدركت من قراءته كم نحن مقصرون في إيصال هذه المعاني في التربية في الأسرة والمدرسة والإعلام، ولعلنا هربنا من التركيز عليها فكرة وتطبيقا أيضاً خوفاً من الجوع.
الجوع الذي أدعو إلى الاصطلاح معه هو بالتوقف عن الأكل قبل الشعور بالشبع، وأقل ذلك ألا نأكل بين الوجبات. ولعلي أوضح أكثر إذا تذكرت أكل الفقراء الذين لا تتأثر صحتهم بالجوع، أو حجم الوجبة التي يتناولها الإنسان الآسيوي. ، وأستثني من ذلك الأطفال والحوامل والمرضعات فاحتياجاتهم الغذائية مختلفة وخارج هذا النقاش.
وهنا بعض الثوابت في الجوع المحمود:
- عدم الشبع في الوجبة الواحدة.
- عدم الأكل بين الوجبات.
- التوقف عن الأكل بعد غروب الشمس.
- صوم التطوع مثل صوم الاثنين والخميس والأيام البيض... إلخ التي قد تصل إلى 180 يوم في العام.
- فهم وممارسة الصوم في رمضان بحيث لا تزيد أوزاننا خلال "شهر الزهد".
ختاما، نحن بحاجة إلى إعادة النظر إلى أن في الجوع لفترات قصيرة صحة وعافية، وبحاجة للهرب من استمرارانا في "حالة هضم" لا تنتهي، ولسنا بحاجة للهرب من الجوع.
ودمتم سالمين،،
د. صالح بن سعد الأنصاري
@SalihAlansari
مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
@SaudiHPC