د. صالح بن سعد الأنصاري
كتبت ذات يوم مقالا بعنوان "لماذا المشي من بين الرياضات؟" وأوردت فيه سبعة وعشرين سببا لاختيار هذه الرياضة لا تتوفر في غيرها من الرياضات بنفس القدر. أما في هذا المقال، فأجيب على سؤال "لماذا البدء بالمشي من بين الرياضات؟" وأستقرئ في هذا المقال الخبرات العالمية والمشاهدة والتجربة العملية في خبرات البدء بنشر ثقافة المشي في المجتمع العربي والخليجي والسعودي، وأثره في مكافحة مشكلات الخمول وأمراض الجلوس على مستوى الفرد والمجتمع، وحل مشكلات ذات أبعاد أخرى.
تعاني المجتمعات العربية والخليجية والسعودية من مضاعفات الخمول وضعف النشاط البدني التي جلبها لنا الانتقال السريع نحو الرفاهية، وتخطيط مدننا بحيث تستوعب أعدادا أكبر من السيارات الخاصة، وضعف وسائل النقل الجماعي. كل ذلك أدى إلى الاعتماد الكبير في التنقل على السيارة الخاصة، وبالتالي إلى آثار صحية واجتماعية سلبية كثيرة. وظلت هذه المعضلة عقودا ولا تزال تؤرق المهتمين بالصحة العامة واقتصاديات الصحة وبالتنمية الاجتماعية.
ولمواجهة مشكلة الخمول اهتم العالم برياضة المشي من بين الرياضات، حيث وردت الدعوة إلى رياضة المشي تحديدا في توصيات العديد من المنظمات العلمية وجمعيات القلب في مختلف الدول المتقدمة، وفي توصيات طبيب أمريكا (The General Surgeon) ومركز التحكم في الأمراض ومنظمة الصحة العالمية، كاستراتيجية لجعل المجتمعات أكثر نشاطا، ليس فقط من خلال التوعية الصحية بل من خلال إعادة تصميم المدن والتجمعات الحضرية لتكون آمنة وصديقة للمشاة.
وطالما نادى القائمون على الشأن الصحي والمهتمون بالطب الوقائي منذ عقود وطالبوا الناس بـ "ممارسة الرياضة" وكان يتبادر للذهن الرياضات الشديدة والتنافسية، فكانت الاستجابة ضعيفة، بل سجل المجتمع العربي والخليجي والسعودي ترتيبا متدنيا في ممارسة النشاط البدني بين دول العالم. أما عندما بسّطنا "الرياضة" بالبدء بالمشي، استجابت أعداد أكبر، وانتشرت ثقافة المشي وتعزيز الصحة بشكل يعتقد أنه لم يسبق له مثيل، وأعطى المشي نتائج أفضل.
وبالمشي نبدأ لأنها رياضة البدء وبدء الرياضة، فهي أول رياضة في مراحل الإنسان العمرية، وكان المشي أول رياضة في حياة البشر بدأت منذ تاريخ سحيق وقبل تقنين الرياضات وإطلاق المنافسات، بل هو الرياضة الأنسب بلا منازع لبدء الانتقال من الخمول إلى النشاط.
وبدأنا بـ المشي للصحة لأنها رياضة ممارسة في حياتنا اليومية للغالبية الساحقة من المجتمع، وحتى بين زائدي الوزن والخاملين. والمشي ليس "نظاما رياضيا" يدخل على حياتهم، بل إنهم يمارسونه يوميا، لكنهم لا يمارسون ما يكفي منه لتعزيز الصحة والوقاية من الأمراض المزمنة أو تخفيف مضاعفاتها. وبدأنا بالمشي لأن إقناع مجتمع تقترب فيه نسبة السمنة والوزن الزائد من 70% بـ "ممارسة الرياضة" ليس أمرا سهلا، وكان لابد من البدء.
أما أولئك الذين لا يزالون يتحدثون عن عدم جدوى المشي فلابد أنهم يدعون إلى رياضات شديدة أو تنافسية، وهذا ما لم ولن لا يحدث. وأقول لهم: بدأنا بالمشي لكل الفئات، وبعد تطور الخبرات انتقل الكثيرون بالتدريج وبمقاومة أقل إلى "المشي السريع" الذي تصل فيه ضربات القلب إلى مستويات تضاهي بل تتفوق على الكثير من الرياضات التنافسية، ويستمر ذلك الارتفاع طوال مدة المشي وبشكل أفضل من العديد من الرياضات. وما الجدال الذي أثاره جدول في كم تقطع الكيلو مشيا إلا دليل على الحاجة إلى البدء بالمشي وصولا إلى التوعية برياضة المشي على أصولها والتي نسيها الناس.
وبالمشي نبدأ لأننا في الصحة العامة لا نستهدف بالدرجة الأولى الرياضيين أو لاعبي المنافسات ليحصلوا على نتائج مبهرة، بل نستهدف كل شرائح المجتمع للانتقال من الخمول إلى النشاط البدني، فبالمشي بدأنا ليكون وسيلة انتقال ناعم وسلس من الخمول إلى نمط نشط. وطالما دعوت للتدرج في اكتساب عادة المشي بطريقة تدريجية في أشهر وليس في أسابيع أو أيام.
وبالمشي نبدأ لأنه رياضة لا تتطلب مستوى معينا من اللياقة أو المهارة للبدء فيه، مما يسهل على الجميع ممارستها بدون استثناء يذكر. وقد نشرت ثلاثية أسميتها "الثلاثية الأنصارية" للمشي للمبتدئين، وكان لها دور في جذب فئات كبيرة من الناس إلى "ركب المشاة" والتي تنص على:
• ابدأ بما تستطيع
• توقف إذا تعبت
• عد غدا
وقد عرفتُ من إحدى متابعاتي في تويتر أن هذه الثلاثية بما تحمله من بساطة تغلق صندوق الأعذار فهذه الثلاثية لم تحولها فقط للاهتمام بالرياضة وفقد الوزن، بل حولها التأمل في هذه الثلاثية من إنسانة عاشقة للتسوق وقضاء أوقات الفراغ في العزائم والأكل إلى مشاءة رشيقة نشطة في التواص الاجتماعي، نفع الله بها الكثيرين، وذلك بعد "رحلة" طويلة لها مع السمنة، ومحاولات عدة لـ "ممارسة الرياضة"
وبالمشي نبدأ لأنه وبالرغم من أنه هو الحد الأدنى من النشاط البدني، إلا أنه ينقلنا نحو مستويات أعلى ونوعيات أكثر من الرياضات، فكثير من أولئك النشطين الرائعين في نشر ثقافة الدراجة والهايكنج ومشي المسافات الطويلة وصعود القمم الدولية والرياضات التنافسية مثل الجري وغيرها، كانوا قد بدأوا مسيرتهم بالمشي، وكان بعضهم قد بدأ في أعمار متقدمة.
بل أدعي أن نشر ثقافة المشي في كل المجتمع وبالذات بين الأطفال والشباب مدخل مجتمعي لتطوير الرياضة بشكل عام. فاكتشاف المهارات كما ونوعا يحدث في مجتمع نشط أكثر مما يحدث في مجتمع خامل تبقى مواهبه الرياضية دفينة.
وبالمشي نبدأ لما تحمله هذه الرياضة من أبعاد شرعية وثقافية، فالمشي مرتبط بالتأمل والخشوع والذكر. ويشكل ذلك عنصر جذب للرياضة في مجتمعاتنا العربية والخليجية والسعودية. كما أن إمكانية استثمار وقت المشي في أعمال مفيدة يؤهل هذه الرياضة بالذات لتنتشر بين "المشغولين"
وبالمشي نبدأ لأن المشي من بين الرياضات يتيح قدرا أكبر من التواصل الاجتماعي وبناء شبكات من المهتمين والمتطوعين في نشر ثقافة المشي وتعزيز صحة المجتمع، وفي ظروف أقل تنافسا. وهذا ما لمسته في مجموعات المشي التي أقوم بدعمها ونقل تجاربها ودعم إنشاء المزيد منها، والتي قارب عددها ستون مجموعة في مختلف مناطق ومحافظات وقرى المملكة وتتواصل بينها من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، بل نتبادل الزيارات والدعم والأنشطة المشتركة.
وبالمشي نبدأ، لما يحدثه المشي من بين الرياضات من فوائد جسدية ونفسية تحدث سريعا. فبعد أن يلتقم المبتدئون "الطُعم" يأتي بعده الشعور بالفوائد والنقلة التي يحدثها المشي، فيتلو هذه التجربة الإيجابية شعور سعيد وتحسن في المزاج. ومع المزيد من التوعية وإجابة الأسئلة الأكثر تكرارا والتحفيز يصلون إلى أبعد من ذلك بممارسة المزيد من المشي وغيره من الرياضات. وقد ثبت علميا أن أعلى درجات التحسن في الصحة العامة والتمتع بالوقاية من الأمراض المزمنة يحدث في المبتدئين عندما ينتقلون من الخمول إلى النشاط، أكثر من التحسن الذي يحدث في أصحاب اللياقة العالية إذا انتقلوا إلى مستويات أعلى من الأداء البدني.
وبالمشي نبدأ لأنه الرياضة الأنسب لكبار السن والمستهدفون بشكل أكبر، لأنهم الأكثر عرضة للإصابة بـ الأمراض المزمنة وهذه فئة ذات أولوية، لا نستطيع الوصول اليها بالتركيز على الرياضات الشديدة والتنافسية.
ولدي فلسفة لاختيار ونشر المشي والبدء به، تدور حول أننا أمام نفوس بشرية تقاوم التغيير، وتميل إلى بذل الجهد الأدنى. وبالمشي نبدأ لأن المشي من بين الرياضات مصحوب بقدر كبير من الاسترخاء والصفاء والراحة النفسية سرعان ما يشعر بها المبتدئون. وقد شكل ذلك عامل جذب كبير نحو الاستمرار في النشاط البدني وبمقاومة أقل.
ولدي فلسفة أخرى أفردت معانيها في مقالي "لماذا المشي من بين الرياضات؟" يفسر قرب المشي من بين الرياضات إلى مفاهيم تعزيز الصحة فالكثير من "الحكمة" و"التأمل" الذي يمتلئ بها المشي تجعلك أبعد عن أن تحسن صحتك بالمشي من جهة وتسئ إليها بفوضى التغذية من جهة أخرى. وقد وجدت المهتمين بالمشي أكثر إقبالا من غيرهم من الرياضيين على التغذية الصحية وعلى وصفات الأكل الصحي وتحسين بقية جوانب النمط المعيشي الصحي.
ختاما، بنفس القدر الذي يؤدي البدء بالمشي إلى نقلة سلسة في حياة الأفراد، سيؤدي تنفيذ استراتيجية منهجية لدعم رياضة المشي في بعدها المجتمعي إلى الانتقال الجمعي إلى النشاط والحيوية ضمن رؤية المملكة 2030 وإلى إنقاص مصروفات الصحة، وستسهم في تحسين جودة الحياة، وتعزيز الصحة النفسية وتنمية الحياة الاجتماعية.
د. صالح بن سعد الأنصاري
@Salihalansari
مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
المشرف على مركز تعزيز الصحة
@SaudiHPC