المشي والتفكير والكتابة

  • click to rate

    منذ زمن الفلاسفة المشائين اليونانيين، اكتشف العديد من الكتاب علاقة عميقة وواضحة بين المشي والتفكير، فقد كتب هنري ديفيد ثورو الفيلسوف والكاتب الأمريكي قوله "في اللحظة التي تبدأ فيها ساقاي بالتحرك تبدأ أفكاري في التدفق"
    وقد درست هذه الظاهرة في «مجلة الفلسفة» الفرنسية الرصينة بعنوان «المشي مع كبار الفلاسفة» واستعراضها لكبار المفكرين في العصر الحديث بدءا من مؤسس العقل الأوروبي الحديث إيمانويل كانط. فقد كان مشهورا بنزهته اليومية المسائية التي كانت موعداً مقدس لديه، وكانت ساعة بالتمام والكمال لا تتأخر أو تتقدم دقيقة واحدة. كما اشتهر جان جاك روسو بعادة المشي وحب النزهات والجولات، لكنه كان يمشي أكثر بكثير من كانط، ويمشي بلا سبب ولا هدف في أحضان الطبيعة الساحرة الواقعة بين سويسرا وفرنسا؟ وكثيراً ما كان يتوقف أمام منظر طبيعي خارق يتأمله، وكان إذا حزبه أمر عظيم يتأمله كان يمشي بتوتر ويصعد ويهبط بنوع من العصبية في تطابق بين توتر الجسد والذهن باحثا عن حل إبداعي لتخفيف التوتر وإنجاب الفكر.
    أما عن نيتشه الذي يعتبر أكبر مشاء في تاريخ الفكر فحدث ولا حرج. فقد أمضى معظم حياته سائراً على الأقدام، يجوب دروب أوروبا طولاً وعرضاً. وكان من عادته إذا وصل إلى منطقة ما إن يخلع عن نفسه وعثاء السفر حتى يخرج فوراً لاستكشاف الدروب والمسالك الصغيرة الضيقة المحيطة بالمنطقة. وكأن هذا الاستكشاف اكتشاف لدروب الفكر ومسالكه العويصة وكأن المشي يساعده على التفكير ويذهب عن ذهنه آلام التوتر النفسي الذي لا يكاد يفارقه، وكان يسافر وحيداً مع ظله فقط. فقد كتابه الصغير «المسافر وظله». وكان يعتبر الوحدة في المشي شرطاً أساسياً لممارسة الفكر والتفرغ للفلسفة وللتعمق في الفكر. وكان يحب الدروب الجبلية الوعرة في جبال الأنغادين الساحرة في سويسرا فيتسلقها إلى أعلى قمة فيها، وينظر من القمم العالية وكأنه ينظر إلى الحياة تحته وهو يتنفس هواء القمم العالية، وهناك أيضاً جاءته لأول مرة فكرة "العودة الأبدية" التي تناقش تكرار عودة الأحداث والأشياء وعودتها إلى ذاتها إلى ما لا نهاية.
    إن التأمل المنتظم أساسي لصحة الجسم والعقل ونهج الحياة القائم على الوعي. كما يمكن للتأمل أن يحسن من جودة النوم وتحسين العلاقات وتعزيز التركيز، ويوفر اتصالًا أعمق بالروح. والتواصل مع عواطفك وأفكارك الخاصة بتعد عن الطاحونة اليومي وامنح عقلك المرهق مساحة للتفكير ومعالجة الأفكار والوعي.
    ومن السهل أن يتورط العقل في الأفكار اليومية، من مهام العمل الشاقة واحتياجاته من السوق، وجداول الأطفال وكل أحاديثنا الداخلية... فلا يسمح كل ذلك لأفكارنا الإبداعية بالظهور إلى السطح. ولهذا ينبغي تهدئة العقل لأجل السكون والوضوح اللذين يتيحان لنا الوصول إلى إلهامنا الإبداعي، وجعله يطفو على السطح، فأفكارنا الأكثر إبداعًا تظهر غالبًا عندما نتعمق في النوم أو أثناء المشي أو في منتصف الاستحمام. ويدعم المشي التفكير والكتابة من خلال تحسينه للمزاج وخفض التوتر وتخفيف الضغوط والتخلص من الأفكار أو المشاعر السلبية، وحرية التفاعل مع البيئة، والتناغم بين حركة الجسم
     إن الطريقة التي نحرك بها أجسادنا تغير طبيعة أفكارنا. كما أن المشي على وتيرتنا الخاصة يخلق ردود فعل تلقائية بين إيقاع أجسادنا وحالتنا العقلية، وعندما نتجول تتأرجح أقدامنا بوتيرة طبيعية مع مزاجنا وحديثنا الداخلي، وتتغير وتيرة أفكارنا بشكل أكثر إذا مشينا بشكل أكثر نشاطًا. كما أن المشي مرتبط بالتفكير والكتابة وبالتغييرات في كيمياء الدماغ. فعندما نذهب في نزهة على الأقدام يضخ القلب بشكل أسرع ويصل مزيد من الدم والأكسجين وتنشيط هرمونات الاندورفين والسيروتونين وغيرها من الموصلات العصبية في الدماغ، كما أن المشي بشكل منتظم يعزز الروابط بين مراكز الدماغ المختلفة وتعزيز التواصل فيما بينها، من خلال المشي تلك الرياضة المليئة بالجهد الواعي.كما أن المشي يعزز الذاكرة والتعلم ويحفز نمو خلايا عصبية جديدة في منطقة الحُصين (hippocampus) المسؤولة عن الذاكرة والتعلم مما يسهّل توليد الأفكار والإبداع المتشعب والربط بين مختلف المفاهيم. كما أن المشي بانتظام يسرع تواصل فصي الدماغ الأيمن والأيسر ويقوي التمازج بين المنطق والخيال، ويحسن فرص” التفكير خارج الصندوق". ويتنامى ذلك بشكل طبيعي ومتدرج مع المداومة على المشي، فالمشي ليس مجرد نشاط بدني، بل هو محفز ذهني قوي يمكن أن يساعدك على تطوير أفكار أكثر جودة وعطاء إبداعي أكبر، خاصةً بالنسبة للكتاب والمفكرين.
    إن التأمل أثناء المشي يمنحنا فرصة لجمع وتركيز وعينا وللتخلص من التشتيت، ومن تعلق وعينا بقضية محددة تتقافز لتفكيرنا بأفضل مما يحدث لو كنا جلوسا أو أمام الشاشات، ويساعدنا المشي بانتظام على البقاء على دراية ووعي بأفكارنا. كما يتيح المشي التأملي فرصة للخروج من تفكير " الطيار الآلي" الذي نعيش به معظم يومنا ويساعد على الوعي الإيجابي بالذات وعلى الاسترخاء والإبداع. ويمكن أن يمارس المشي التأملي بشكل مقصود، أو بتلقائية أثناء دمج المشي والتنقل من مكان لآخر
    قد يبدو تعلم قضاء الوقت في "عدم القيام بأي شيء" أو منح عقلك استراحة مضيعة للوقت، ولكنه ضروري لصحتك العقلية اجعل من أولوياتك المشي في العزلة الطويلة، وستكون قادرًا على التفكير بوضوح من الفوائد، يحيي طاقتك الاجتماعية لتتمكن من العودة إلى التفاعلات الاجتماعية. تخفيف سلبية ما يحدث في المنزل أو في المكتب، والابتعاد عن الآخرين، التركيز على ما يهمنا لا ما يفكر فيه الآخرون، وطريقة ممتازة لتقليل التوتر، والحصول على القليل من الوقت لأنفسنا، ويزيد من الاعتماد على أنفسنا والتعامل مع تلك المشاكل أو المخاوف بأنفسنا، إعادة توجيه الانتباه واستعادة الانتباه لما يحتاج إلى الانتباه.
    أما كيف يصبح التأمل جزءا فاعلا من المشي بانتظام، فمن ذلك اختيار الوقت المناسب، ومن ذلك اختيار المشي فجرا، أما اختيار المكان فيمثل عنصرا مهما بحيق يكون الأقرب إلى في الطبيعة وأن يحمل العديد من التنوع كما ينبغي أن تقل فيه المقاطعة والتشتيت ومن خصوصية المشي في الطبيعة أن المشاهد التي تراها قد توحي لك بأفكار وقد وتشكل اللمحات الت تراها تعين على إعادة التفكير والدمج بين اللمحات الداخلية والخارجية والجمع بينهما بإبداع. زلن يطول الوقت في المشي لكي تبدأ الأفكار في التدفق، ويكفي لذلك بضعة كيلومترات من المشي، وترتفع جرعات ونوعيات وكميات التأمل برحلة طويلة ليوم واحد، وتزداد أكثر وأكثر لتصل إلى رحلات طويلة من التأمل لتغيير أنماط التفكير وتكرار الوقوف مع مسيرة الحياة ومراجعة ما يعرض لنا في الحياة في رحلات المشي الطويل المنتظم والمتكرر.

    ومن أهم النصائح في المشي والتأمل
    •    امش فجرا
    •    امش وحيدا
    •    تجنب الإسراع المرهق
    •    اترك الهاتف وسماعة الأذن
    •    لا تسق أفكارك واتركها تنساب
    •    انتبه للبقاء آمنًا وواعيًا بما حولك 
    •    اختر مكانا يضمن المتعة والتنوع أقرب للطبيعة 
    •    ركز على حركة قدميك وساقيك وبقية جسمك
    •    خذ معك مفكرة وقلما لصيد الأفكار و "الحلول"
    •    وكل ما تشتت، عد بسلاسة إلى الوعي بالأحاسيس الجسدية للمشي.
    •    أشغل حواسك بما ترى وتسمع، وبما تشتمه حولك من روائح وشعورك بالحرارة والرياح 
    •    تعود على مشي مسافات أطول بالتدريج وواصل الانتظام في "مشيات التأمل" وطور قدراتك فيها

    يقور فريدريك نيتشه " الأفكار العظيمة حقًا تنشأ أثناء المشي". ويمكن للمشي والتأمل أن يكون متطورا، فمع مرور الزمن وينتقل تركيزك من مرحلة لأخرى ومن تأمل مشكلة إلى تأمل مشكلة أخرى ويتطور تفكيرك وكتاباتك من مرة لأخرى، وبهذا تمشي نحو "نسخة أخرى أفضل" من المفكر والكاتب الذي بداخلك.

    ودمتم سالمين

    د. صالح بن سعد الأنصاري

    مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
    المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض