كورونا والطالب الذي لم يحل الواجب

  • click to rate

    د. صالح بن سعد الأنصاري

    في شأن جائحة كورونا التي قد تكون غيرت أو ستغير مسار التاريخ، يغفل الكثيرون أو يتغافلون عن أن هناك "فيلا في الغرفة" بحسب المقولة الهندية التي تعبر عن وجود مشكلة كبرى تؤثر على الجميع ولا أحد يود مناقشتها أو البدء بها. وهذا "الفيل" الذي زاد من وطأة كورونا على حياة واقتصاد وصحة العالم هو أحد مشكلات الأمراض المزمنة وأمراض النمط المعيشي (متمثلا في ضعف النشاط البدني والسمنة، والسكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض شرايين القلب، والسرطانات.. الخ من الأمراض المتعلقة بالاستقلاب واضطرابات المناعة) والتي تصاحب تخوفات الأنظمة الصحية من كورونا، فالأمراض المزمنة وما يصاحبها من اختلال المناعة كان لها تأثيرها في كل مما يلي، وبشكل كبير ومثبت إحصائيا:
    • من تظهر عليه أعراض كوفيد 19
    • من يحتاج علاجا خارج المستشفى 
    • من يحتاج إلى تنويم ومراقبة 
    • من يحتاج إلى تنفس صناعي
    • من يتوفى بسبب كورونا
    وكلنا يذكر تلك العجوز الأسبانية (106 سنة) التي تجاوزت الإصابة بكوفيد بسلام، وعندما سئلت عن السبب، قالت ببساطة "أنا صحتي جيدة".  ولو ظهرت كورونا قبل مئة عام فقد تكون مرت ولم تدخل التاريخ كما دخل "كوفيد 2019" ففي تلك الأزمان كان الطيف الواسع من الامراض المزمنة في حدود سكانية ونسب متدنية وفئات محدودة، وحينها كانت مناعة البشر طبيعية وغذاؤها من الطبيعة، وكانت تمشي وتتحرك في بيئات صديقة للمشي. ولم يكن لدى البشر شعور بضرورة السهر و "الترفيه الليلي" الذي يوقظ هرمونات الجوع والضغط النفسي وتنشط أثناءه "الاختلاطات الألزهايمرية" والذي يثبط المناعة ويهيئ الإنسان للأمراض المزمنة والأورام.
    ولو حدثت جائحة كورونا في عالم يميز بين الأمراض المزمنة المحدود بالأسباب ذات البعد الوراثي في نسب ضئيلة من الناس لاستطاع التعامل مع هذه الجائحة وإعطاءها حجمها بلا مبالغة، ولتمكن من التركيز على المسنين المصابين بالأمراض المزمنة وحمايتهم بموارد محدودة وكمية من اللقاحات تخصص للأكثر عرضة لمضاعفات هذه الجائحة كما يحدث في الانفلونزا الموسمية كل عام، وفي تلك الظروف سيترك بقية البشر لمعجزة المناعة الطبيعية، الرحمة التي أودعها الله الإنسان.
    لقد جاء كوفيد 19 على عالم كان ينادي فيه المتخصصون من عشرات السنين صناع القرار والقائمين على الشأن الصحي والتعليم الطبي ويقولون: لا تتفرغوا فقط لإطفاء حرائق "الأمراض المزمنة" ولكن وفي نفس الوقت ابذلوا جهدا وخصصوا موارد (التي تكاد تكون صفرية) من أجل منع اشتعالها. وقد وصفت أدبيات لا حصر لها حجم مشكلات الأمراض المزمنة وحذرت من تسارعها المخيف ووطأة ذلك على الاقتصاد والتنمية في كل مكان تنتشر فيه.
    لقد جاءت كورونا على أنظمة العالم الصحية كما يأتي الامتحان فجأة على "طالب مشاغب/فاسد" لم يكن ينفذ الواجبات المطلوبة، ولم يكن يرغب في تعلم "الدروس" ولم يكن يحب أن "يسمع الكلام" هكذا كانت (ولا تزال) انظمتنا الصحية الأكاديمية والخدمية مستمتعة بمسح البلاط وهي تدرك أن سبب المشكلة تسريب في السقف (ولأسباب غير مقبولة). ولو لم تأت كورونا على هذا الطالب المشاغب لاستمرت "حرائق الأمراض المزمنة" ولاستمر انحدار البشرية سريعا نحو الوقت الذي تصبح فيه الأعمار المتوقعة للأطفال أقصر من أعمار آبائهم بسبب الأمراض المزمنة وعلى رأسها السمنة وغيرها من عوامل الخطورة ذات المنشأ السلوكي والبيئة التي شوهها الاقتصاد المتوحش.
    ودعوني "أحلم" معكم لو أن الدول أضافت إلى الترليونات التي استثمرها في التعامل مع الجائحة من خلال "خطة عالمية" لتعزيز النمط المعيشي اللازم لتعزيز المناعة الطبيعية (مع التركيز على الفئات الأكثر تعرضا لمضاعفات كوفيد 19) ووفق استراتيجيات مبنية على أفضل الممارسات وأكثر البراهين العلمية ثباتا ونجاعة وإحداث تغيير جذري في النمط المعيشي وإعادته إلى النمط "الطبيعي" الذي طالما دعت إليه المنظمات المتخصصة. ولنحلم أيضا أن ذلك أدير بطريقة توازي وتدعم الإغلاقات التي غيرت (رغما عنا) حياة البشر تغييرا جذريا لحوالي عام أو أكثر. 
    وأزعم أن الأفراد (على مستوى العالم) قد وعوا الدرس أفضل وأسرع من الأنظمة، فقد كانت كورونا سببا في ارتفاع نسبة ممارسة المشي والنشاط البدني وركوب الدراجات من اليوم الأول الذي بدأت فيه الإغلاقات، ورصدت ذلك الكثير من الأبحاث والمؤتمرات والندوات، وقد غردت يوما عن هذا، وكتبت مقالا قلت فيه "لقد خرج المشي منتصرا من معركة كورونا" فقد انضمت أعداد أكبر من البشر إلى ممارسي المشي للصحة وركوب الدراجات رغبة أو اضطرارا. ويبقى أن نعرف أكثر عما أحدثته كورونا في بقية السلوكيات البشرية المتعلقة بالصحة وأنماط الحياة، وما إذا كانت تلك التغيرات في صالح البشرية أم لا.
    إن الأمراض المزمنة التي أحرجت العالم وأخافت السياسيين من كورونا، لا تتجاوز كونها "أمراض النمط المعيشي" و "أمراض الجلوس" و"متلازمات نقص المشي". وهذه الأمراض هي "الفيل في الغرفة" الذي يتحاشى الجميع ان يسأل؛ من يجب أن يُخرج هذا الفيل؟ وهل سكان الغرفة مستعدون لتحمل تبعات العمل على إخراجه (خوفا) أم أن هناك مستفيدون (طمعا) من وجوده؟
    إن إخراج "الفيل" من الغرفة قد يتأخر الى أن يحدث أحد أمرين؛ الأمر الأول هو أن تستمر جائحة كورونا (هذا التنبيه الإلهي) في تحوراتها وإغلاقات متتالية للحدود الدولية وتحديدها لحركة الطيران والاقتصاد. وإلى أن تأتي الجائحة على ثروات الدول والمجتمعات بشكل يؤلم الطالب الذي يرفض التعلم وتنفيذ "الواجبات" وإلى أن يهتدي لما كان يقوله "معلمو" الصحة العامة ويعيد الأمور إلى نصابها.
    الأمر الآخر الذي قد يسرع بإخراج الفيل أن تصل الرسالة للأفراد والمجتمعات (بفضل التواصل الاجتماعي) ويعي البشر الدرس (بعيدا عن دوائر صنع القرار) ويرتفع الوعي بأمراض النمط المعيشي ويعرف الناس "كلمة السر" في تجنب هذه الأمراض التي جعلت للجائحة شأنا لم تكن لتصل إليه. وهذا سيتطلب الوقت لتغيير أنماط التغذية والنشاط البدني والنوم والعودة إلى الفطرة والطبيعة.
    وإذا لم يحدث أي من الأمرين (الذين لا ثالث لهما) بشكل يخفف وطأة الجائحةـ فسيعيش البشر في عالم تشوهت في الحياة والتواصل الإنساني وقد يضغط "الطالب المشاغب" على سكان الغرفة بشكل يهدد استمرار الحياة بالشكل الذي عهدناه…. إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
     
    ودمتم سالمين

    د. صالح بن سعد الأنصاري

    @SalihAlansari
    مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
    المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
    @SaudiHPC