المشي والتأمل لماذا وكيف؟

  • click to rate


    التأمل المنتظم مهم لصحة الجسم والعقل ولنهج حياة قائم على الوعي المستمر، ويساعد على التركيز والإدراك وعلى تطوير القناعات بشكل قد يغير مسارات الحياة ويشكل المستقبل. كما أن التأمل بانتظام يحسن جودة التفكير ويعيد مراجعة وتوضيح مسارات العلاقة مع الآخرين ويمنح العقل المرهق مساحة لتخفيف الضغوط ويوفر تواصلا أعمق مع الروح والأفكار الخاصة بعيدا عن "طاحونة الحياة" اليومية.
    وقد وجدت الكثير من الأبحاث علاقة إيجابية بين التأمل والصحةـ. فقد ثبت أن فترات التأمل مرتبطة بتخفيف التوتر والقلق وتعزيز الصحة النفسية والوعي بالذات. كما يحسّن القدرة على استمرار التركيز والانتباه وإبطاء فقدان الذاكرة المرتبط بتقدم العمر. ويمكن للتأمل أن يعزز اللطف والمشاعر الإيجابية تجاه النفس والآخرين ويساعد في محاربة أنواع الإدمان ويحسّن جودة النوم ويقلل الأرق ويخفف ارتفاع ضغط الدم ويحسّن الصحة البدنية عموما. وتزداد كل تلك الفوائد كلما زاد الوقت في ممارسة التأمل، كما تتراكم الفوائد بمرور الوقت ولها مردود أكثر فعالية مع تقدم السن وفي الفئات الأكبر سنا.
    من السهل أن "يتورط" العقل في الأفكار اليومية من مهام العمل الشاق إلى احتياجات الأسرة...إلخ. ومن السهل أيضا أن نتورط في أحاديث النفس الداخلية التي تغلب عليها السلبية وتأسر الكثيرين. وقد لا يسمح كل ذلك لأفكارنا الإبداعية بالظهور إلى السطح كما يجب.
    وكثيرا ما تتجلى أفكارنا الأكثر إبداعا أثناء النوم العميق (في الأحلام) وأثناء الاستحمام وبلا تخطيط ولا مقدمات. أمّا عندما نمارس المشي والتأمل فيمكن لمشوار المشي المخطط له أن يظهر الإلهام والإبداع بطريقة واعية. فمنذ زمن الفلاسفة المشائين اليونانيين اكتشف عددٌ من المفكرين علاقة عميقة وواضحة بين المشي والتفكير، وكتب هنري ديفيد ثورو (1817- 1862م) الفيلسوف والشاعر والكاتب الأمريكي يقول "في اللحظة التي تبدأ فيها ساقاي بالتحرك تبدأ أفكاري في التدفق"
    إن الطريقة التي نحرك بها أجسادنا تغير طبيعة أفكارنا، والمشي على وتيرة متكررة يتسبب في ردود فعل تلقائية لحالتنا العقلية. فعندما نمشي تتأرجح أقدامنا ويتأرجح معها مزاجنا وحديثنا الداخلي (كما يحدث عندما تهدهد الأم الطفل). كما أن المشي مرتبط بالتفكير بسبب ما يحدث في الدماغ، حيث يضخ القلب بشكل أسرع ويصل مزيد من الدم والأكسجين إلى الدماغ. ويؤدي ذلك إلى تعزيز الروابط ونقل الرسائل بين خلايا الدماغ وتوظيف مراكزه المختلفة في التفكير والوصول إلى حلول. كما أن إفراز الاندورفينات وغيرها من "هرمونات السعادة" والموصلات العصبية يوسع تواصل فصي الدماغ (الأيمن والأيسر) ليخلط المنطق بالخيال ويعزز التفكير خارج الصندوق. ومن خلال تحسين المزاج وتخفيف التوتر والضغوط النفسية يمكن للمشي أن يطرد الأفكار والمشاعر السلبية وينمي الإبداع. كما ثبت في الكثير من الأبحاث، ومنها بحث ماريلي أوبيزو ودانييل شوارتز المشهور من جامعة ستانفورد.
    والمشي والتأمل ليس من إضاعة الوقت في "عدم عمل أي شيء" بل يمنحنا فرصا منتظمة لتركيز وعينا والتخلص من التشتيت الذي يحدث أمام الشاشات وفي صحبة الآخرين. ويعيدنا المشي إلى التواصل بوعي مع أفكارنا، ويساعد هذا الوعي الإيجابي على الهدوء الداخلي ويوفر "مرآة" نرى فيها أنفسنا وأفكارنا، ويخرجنا من تفكير " الطيار الآلي" الذي نعيش به معظم يومنا ويبقينا غير قادرين على الابتكار والإبداع. والمشي والتأمل ضروري للتفكير بوضوح وللحصول على وقت لأنفسنا والاعتماد على أنفسنا في التعامل مع مشكلاتنا ومخاوفنا والتركيز على أولوياتنا.
    أما كم يكفي من المشي للتأمل وبدء التركيز فلن تتأخر الأفكار في التدفق إلى وعيك ومن الدقائق الأولى. وقد يكفي بضع كيلومترات للدخول في مزاج تأملي عميق. ومن الممكن أن تتحسن نوعية وكمية التأمل برحلة طويلة ليوم واحد، وتتحسن أكثر مع رحلات المسارات الطويلة وتحديدا في الطبيعة إذا استمرت عدة أيام. وقد يؤدي المشي الطويل إلى التأمل العميق الذي يغير أنماط التفكير بشكل جذري وإلى الوقوف مع مسيرة الحياة ومراجعتها بالكامل. 
    وقد سطرت الكثير من رحلات المشي الطويل قصصا غيرت أصحابها وصنعت منهم أشخاصا مختلفين. ومن تلك القصص ما حدث للمغامرة تشيريل سترايد التي اعتقدت في سن الثانية والعشرين أنها فقدت كل شيء بعد وفاة والدتها وتشتت عائلتها ودمار زواجها في غضون أربع سنوات، فأدمنت المخدرات واضطرت للعمل نادلة في مطعم في عمل جزئي، ولم يعد لديها في حياتها ما تخسره. ودون سابق خبرة أو تدريب ومدفوعة بإرادة عمياء قررت أن تقطع مسار "ساحل المحيط الهادئ" (Pacific Coast Trail) وأصرت على قطع المسار بمفردها في رحلة مشي طويلة ومليئة بالتشويق والذكريات والأفكار والفكاهة ومواجهة الصعاب وبالكثير من التأمل. رحلة كادت تصيبها بالجنون لكنها قوتها في التشبث بالحياة وفي نهاية المطاف أنهت أكثر من نصف المسار الذي يبلغ طوله 4.240 كيلومتر وخرجت من المسار امرأة ناجحة وكتبت روايتها "وايلد" التي حُولت إلى فلم شهير يحمل نفس الاسم "Wild" 
    ومنها قصة روبرت ريدفورد الذي تقاعد في نهاية الستين من عمره وكان شخصا عاديا. وبلا مقدمات ولا سابق خبرة قرر هو وصديق قديم له قطع مسار الأبالاتشيان (3.498 كم) المزدحم بالمشاة والذي يقطع أمريكا من الشرق إلى الغرب في مغامرة خطرة وكوميدية استمرت ثلاثة أشهر قطعا خلالها أقل بقليل من نصف المسار، وكتب روايته "نزهة في الغابة" التي حولت إلى فلم شهير حمل نفس الاسم "A Walk in the Woods"
    أما كيف يصبح التأمل فعالا أثناء المشي فيحدث باختيار الوقت المناسب وأفضل الأوقات لذلك المشي فجرا. كما يوفر المكان عنصرا مهما حيث ينصح بالمشي في أماكن أشبه ما تكون بالطبيعة ويتوفر فيها قدر أكبر من التنوع البصري وتقل فيها مقاطعات الآخرين. وتأتي خصوصية المشي في الطبيعة (الهايكنج) في أن المشاهد الجديدة والمتنوعة قد توحي بأفكار مختلفة، وقد يعين الدمج بين تلك اللمحات الداخلية والخارجية على التفكير المبدع.
    ومن من أهم النصائح في المشي والتأمل
    •    امش فجرا
    •    امش وحيدا
    •    حدد موضوعا تتأمله
    •    انتبه للأمان وعِ ما حولك 
    •    تجنب الإسراع والمشي المرهق
    •    لا توجه أفكارك واتركها تنساب
    •    تجنب الانشغال بالهاتف وسماعة الأذن
    •    ابقَ على وعي مستمر بالتأمل وأعد توجيه انتباهك كلما تشتت
    •    أشغل حواسك بما ترى وتسمع وتشم من روائح وإحساس بالحرارة والرياح 
    •    ركز على ارتفاع قدميك وسقوطهما على الأرض وحركة ساقيك وبقية جسمك
    •    خذ معك مفكرة وقلما لصيد الأفكار والحلول
    •    تعود مشي مسافات أطول بالتدريج وانتظم في "مشيات التأمل"

    يمكن أن يتطور المشي والتأمل بمرور الزمن وينقل تركيزنا من مرحلة لأخرى ومن تأمل مشكلة إلى تأمل مشكلة أخرى في تطور مستمر يساير حياتنا ومراحلها وفرصها المتجددة فنراجع كل شؤون حياتنا بشكل متواصل. وبهذا نمشي نحو "نسخة أخرى أفضل" من أنفسنا. وختاما، يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844 -1900م) "الأفكار العظيمة حقًا تنشأ أثناء المشي"

    ودمتم سالمين

    د. صالح بن سعد الأنصاري

    @SalihAlansari
    مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
    المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
    @SaudiHPC

     

0 comments