‏تجربتي في كتابة رسالة الدكتوراه باللغة العربية

  • click to rate

    في عام 1993 وعندما حان وقت اختيار موضوع رسالة الدكتوراه ضمن متطلبات الزمالة في برنامج الدراسات العليا في طب الأسرة والمجتمع بجامعة الملك فيصل، اخترت كتابة اقتراح البحث وإعداد الرسالة باللغة العربية. وقد كان معتادا أن تكتب بالإنجليزية‏، بل كان ذلك (وللأسف) هو المتاح والأسهل رسميا. أما تقنيا فقد كان من أسباب اختيار الزملاء آنذاك (ولا يزال) الكتابة بالإنجليزية; التعود على اللغة الإنجليزية، وسهولة الرجوع والاقتباس من الأدبيات والمراجع الإنجليزية بنفس اللغة، إضافة إلى ضعف قدرات الكثيرين في الكتابة باللغة العربية.

     

    وقد كنت مصرا على هذا التحدي اللغوي والعلمي انطلاقا من حب اللغة العربية ورغبتي في خوض التحدي والحرص على تطوير الذات. وقد شجعني على ذلك دعم رئيس القسم آنذاك دكتور زهير بن أحمد السباعي (حفظه الله). كما وفقت في اختيار المرشد الأكاديمي الدكتور حسن بلة الأمين (سوداني الجنسية) الذي كان متقنا للغة العربية ومحبا لها.

     

    كانت رسالتي هي الرسالة الثانية التي تكتب باللغة العربية في تاريخ البرنامج، فقد سبقتها رسالة دعم موضوعُها اختيار اللغة العربية حيث كانت عن التوعية الصحية. أما رسالتي فقد كانت في طب تطور الأطفال (Developmental Pediatrics) وكان عنوانها "معايرة استبانة دنفر المعدلة، لفرز تطور الأطفال والاكتشاف المبكر للإعاقة". والاستبانة هي أداة فرز تحدد الأعمار التي يكتسب عندها الأطفال الطبيعيون ما مجموعه 104 من مقدرات التطور من سن الولادة إلى ست سنوات. وهدف البحث إلى تحديد الأعمار التي يتقن عندها الأطفال السعوديون تلك المقدرات، وتطبق لاكتشاف الأطفال الذين يتأخرون عن اكتساب تلك المقدرات وإحالتهم للمتخصصين للتأكد من سبب التأخر أو الإعاقة.

     

    أضفت على جهد الدراسة السفر إلى الولايات المتحدة لمقابلة مطور "فحص دنفر" الذي عملت عليه وهو الدكتور وليم فرانكنبرج، حيث تعلمت هناك طريقة تنفيذ الفحص عمليا على الأطفال، وراجعت معه خطة البحث قبل البدء في تنفيذه. أما الجزء العملي من الدراسة فقد نفذته على عينة ممثلة من أطفال المدينة المنورة وإحدى قراها. وقد قارنت الدراسة بين مقدرات التطور في أطفال دنفر وأطفال المملكة العربية السعودية، وبين أطفال القرية وأطفال المدينة. وشملت العينة 1229 طفلا وطفلة، وقاس البحث المقدرات ‏التطورية في المجالات الأربعة (اللغوية، والحركية الكبرى، والحركية الدقيقة، والمقدرات الاجتماعية) وأصبحت الاستبانة جاهزة في نسختها النهائية لتستخدم في الاكتشاف المبكر للإعاقة عند الأطفال.

     

    خضت تلك التجربة بعد مرحلة من التعليم في المجال الطبي سادها استخدام اللغة الإنجليزية استمرت حوالي عشر سنوات. وكنت أتصور أنني أستطيع الكتابة بلغتي اللغة العربية وأن الدراسة بالإنجليزية كل تلك السنوات لم تكن قد أثرت على لغتي العربية أو أعاقت تطورها، إلا أنني فوجئت بأنني ضعيف في اللغة العربية. كما فوجئت بكمية الصداع الذي سببته للمشرف الدكتور حسن بلة بسبب كثرة أخطائي في الإملاء والإعراب والتراكيب وفي أدوات الربط. وأذكر أنني في فصل "مراجعة الأدبيات" كنت أسرد الأبحاث السابقة مكررا (كما وجد فلان ... وكما قال فلان... وكما استنتج فلان...) مما جعل مشرفي يعلق (بلهجة سودانية) على ذلك بقوله (ما عندك أداة ربط بين الدراسات إلا... وكما.. وكما... وكما....ههههه)

     

    وقد اخترت أن أحرر الرسالة التي بلغت حوالي 150 صفحة على شاشة الحاسب. كما حرصت على مراجعة وتحسين الصياغة اللغوية لتصل أفكار الرسالة إلى القارئ بسهولة -رغم صعوبة موضوعها العلمي- وتعلمت أن أضع نفسي مكان القارئ وأنا أكتب له بحيث لا يحتاج اجتهادا في استنتاج المقصود ولا من يشرحه له، ولا أن يشعر بالملل بسبب طول الجمل أو المقاطع أو بسبب التكرار. وكنت في سبيل ذلك مستعدا لإعادة التحرير والعودة لإعادته مرات ومرات، فلم يقل عدد مراجعاتي لكل فصل عما يتراوح بين عشرة إلى عشرين مرة.

     

    ولقد تعلمت كيف يمكن للكتابة بالعربية أن تجعلني أيضا أستعير التعابير والاستشهادات العربية الأصيلة مما يجعل النص يبدو وكأن الكاتب يفكر بالعربية ويكتب أيضا بالعربية، وهذا مما يصر أنصار التعليم بالعربية على تطويره في الدارسين في مختلف التخصصات، فهذه التعابير والاستشهادات تسهم في تطوير المحتوى وتأصيله، وتطعم الكتابة العلمية بالمحتوى الحضاري الذي يبرر لأهل اللغات الأخرى أن يأخذوا عنا، لا أن نبقى مستهلكين لمنتجاتهم العلمية، أو نعيد إليهم بضاعتهم. إضافة إلى أن التعلم والكتابة بالعربية تدرب الخريج على التواصل بلغة مجتمعه الذي يخدمه ويسهل تقديم التوعية الصحية للمجتمع.

     

    ولا أخفي أن الكتابة بالعربية قد أخذت مني جهدا إضافيا، لأن معظم -إن لم يكن كل- مراجع الرسالة كانت باللغة الإنجليزية، مما تطلب القراءة وفهم النص الإنجليزي ونقله إلى العربية، وذلك يحمل الباحث مسؤولية الفهم والترجمة والصياغة، ويأخذ جهدا ووقتا أطول و"يحرمني" من سهولة خاصية "القص واللصق" للنصوص الإنجليزية حتى مع الإشارة إلى أن النص مقتبس.

     

    وقد كان من بين التحديات التي يتصورها الكثير -وهم واهمون- تحدي كثرة المصطلحات الطبية، وأنها تعيق التعليم والكتابة العلمية باللغة العربية، فلم تتجاوز تلك المصطلحات 1% من كلمات الرسالة والتي اجتهدت في ترجمتها بسهولة للعربية وأبقيت المصطلح الإنجليزي (بين قوسين) ليعرف دارسو الطب باللغة الإنجليزية المصطلح المقصود.

     

    وبعد المناقشة، حصلت رسالتي على أفضل درجة بين رسائل تلك الدفعة من الخريجين. وقد أثنى كلا الممتحنين، الخارجي أستاذ الصحة العامة الدكتور مزمل عبدالقادر، والداخلي بروفيسور طب الأطفال الدكتور عبداللطيف الفرائضي الذي كتب مقدمة رائعة قرأها في بداية المناقشة، أثنى فيها على فكرة البحث وقوته العلمية، وعلى كتابته بلغة عربية سلسة.

    وبالرغم من كتابة الرسالة بالعربية إلا أن ذلك لم يمنع من إعداد ونشر أربعة أوراق علمية باللغة الإنجليزية مستمدة من الرسالة. كانت إحداهم عن طريقة الترجمة والمعايرة، والأخرى عن المقارنة بين مقدرات أطفال دنفر وأطفال السعودية وبين أطفال المدينة وأطفال القرية في مجالات التطور الأربعة. وكانت الورقة الثالثة عن العوامل المؤثرة في اكتساب الأطفال مقدرات التطور. أما الأخيرة فكانت عن التعديلات الموضوعية والثقافية التي روعيت عند تطوير الاستبانة كأداة لقياس ومقارنة التطور في الأطفال في مجتمعين مختلفين. نشرت إحدى هذه الأوراق في إحدى أرقى المجلات الأمريكية (Pediatrics) بمشاركة د. وليام فرانكنبرج، ونشرت ثانية في مجلة عالمية أخرى، أما الثالثة والرابعة فنشرتا في مجلتين علميتين طبيتين محكمتين في السعودية.

     

    كان قراري كتابة الرسالة بالعربية موفقا أيضا لأن موضوع الرسالة موجه أساسا إلى كل من ممرضات "عيادات الطفل السليم" التي تعمل على الاكتشاف المبكر للإعاقة، كما أن مادتها مناسبة أيضا للأمهات لكي تسهم في تمكينهن من تحسين مقدرات تطور أطفالهن.

     

    ساهمت تلك التجربة في إطلاق قدراتي على التواصل اللفظي والكتابي بالعربية. فقد أعدت تطوير قدراتي في التحرير العربي من جديد، وانطلقت بعدها في كتابة ونشر مئات المقالات العربية في المجال الصحي، كما كان من السهل والممتع إتقاني لإعداد التقارير في مجال العمل. كما انطلقت في تأليف وترجمة ستة كتب في المجالات الصحية باللغة العربية.

     

    وأعتقد أن تطور تجربتي في الكتابة بالعربية لن يكون بهذه الانطلاقة لو استمرت كتابتي في المجال الصحي محصورة في اللغة الإنجليزية. فقد كانت تلك التجربة أيضا فرصة نوعية مهدت للإسهام لاحقا في تعزيز الصحة والتوعية الصحية في مجتمع يتحدث اللغة العربية، بل أسهمت في أن تتجاوز رسالتي الوطن لتصل إلى 23 دولة عربية ويستفيد منها أكثر من 400 مليون ناطق بالعربية. أما إضافتي لأربعة ‏مقالات باللغة الإنجليزية في مجلات علمية تهتم بطب الأطفال فهي إضافة وإن كانت نوعية فإنها قد لا تذكر مقارنة بالكم الهائل من المحتوى الإنجليزي في هذا المجال، فيما نحن بحاجة أكبر لإثراء المحتوى العربي في هذه المجالات.

     

    لقد كان الاستثمار الكبير والمتعدي هو تنمية مهاراتي والتطور اللغوي الذي حصلته من هذه التجربة. فلقد كان لهذه التجربة دور في إتقان التواصل والتوعية نطقا وكتابة لاحقا، وفي الحماس الذي أصبحت أحمله للتعليم الطبي باللغة العربية وتعريب الطب والترجمة وتعزيز المحتوى العربي في المجالات الطبية بل حتى على المستوى الأسري وحرصي على حب أطفالي للعربية والتحدث بالعربية. ولعل يوما يأتي يتخذ فيه قرار سيادي بالتعليم الجامعي والدراسات العليا في المجال الطبي وغيره من المجالات العلمية باللغة العربية لغة الدين ولغة العرب ولغة القرآن الكريم.

     

    ودمتم سالمين

     

    د. صالح بن سعد الأنصاري

    استشاري طب الأسرة والمجتمع

    مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة

     

    المشرف العام على مركز تعزيز الصحة بالرياض

1 comment