أقف اليوم مع قصة جديدة من القصص التي تغلب فيها المشي والنمط المعيشي على أحد الأمراض المزمنة التي يحلو للبعض أن يسميها الأمراض المستعصية، ومع قصة من قصص التخلص من السكري (النوع الثاني) بعد أن وصل إلى مرحلة "الاعتماد على الانسولين" وذلك خلال حوالي خمسة أشهر. وسأبين اعتراضي على ما عودتنا عليه منظومات الخدمات الصحية والبحثية والتعليمية بوصف هذه الأمراض المزمنة بأنها "تدوم فترات طويلة" و"تتدهور ببطء" و "تتطلب عنايةً طبيةً مستمرةً" وأمراض "لا شفاء منها" ولابد من الاستمرار في "معالجتها" وبعد عرض قصة "مطلق" سأتساءل بعض الأسئلة مع نظامنا الصحي ومع المتخصصين الذين يتعاملون مع المصابين بالأمراض المزمنة، وتساؤلات مع المرضى والمعرضين لهذه الأمراض.
يقول الأستاذ مطلق:
كنت أعاني من سمنة ووزن قارب 98 كجم على مدار حوالي 15 عام، ولَم أكن أمارس الرياضة مطلقا، فقد كنت أعيش خمولا وروتينا يوميا وشكلا غير جذاب. وقد كانت لي محاولات متعددة ببدء "نظام غذائي" دون ممارسة الرياضة، وعادة لا يتعدى الاستمرار فيه أكثر شهرين أعود بعدها للوضع السابق وأسوأ… فتسلل السكري إلي ولم أكن أتوقع ذلك، فقد كان عمري 45 سنة فقط.
في العيادة اكتشفت أن الأرقام والأعراض في رأي الطبيب تستدعي البداية فورا بالعلاج، فوصف لي جرعة جلوكوفاج 850 ملجم مرتين يوميا. وبعد أقل من سنة استمرت صعوبة التحكم في سكر الدم وكان معدل السكر اليومي حول 300 ملجم ونسبة السكر التراكمي دائماً أعلى من 7% وقاربت في إحدى القراءات وصل التراكمي إلى 12% ورغم معرفتي بأهمية الرياضة وفقد الوزن الزائد، لم أكن ألتزم بنظام غذائي أو رياضي، فأضاف الطبيب إبر الانسولين (تروليسيتي) 75 وحدة، ورفع جرعة الجلوكوفاج الى 1,500 ملجم مرتين يوميا.
استمرت قصتي مع السكري والحبوب والانسولين حوالي سنتين، وحقيقة لم يؤد رفع جرعة الجلوكوفاج ولا إضافة الانسولين الى تغير واضح يدعو للاكتفاء بالأدوية والاستمرار عليها. وقد عانيت خلال تلك السنتين مما يعانيه مرضى السكري من الوخز ومتابعة توقيت الإنسولين وحمل عبواته في كل مكان. وعانيت من مشكلات تخزينه في مكان بارد… ولك أن تتخيل ما يحدث لمريض السكري عندما يكون في بيئة لا تراعي حالته. فذات يوم فصل أحدهم الكهرباء عن ثلاجة صغيرة كنت أضع فيها الانسولين ليشحن هاتفه الجوال، ومرة وجدت فيها جبنا وعصيرات وكأني متبرع بثلاجة للأعمال الخيرية. ،،، إلى آخر تلك المعاناة.
هنا رأيت أنه لابد من تغيير الوضع فلا يعقل الاستمرار هكذا، ففكرت في أول تجارب المشي وحساب عدد الخطوات بالجوال لعله يغير في القراءات أو ينقص من الجرعات. ومرة كنت في حوار مع أحد الزملاء حول المشي وفوائده، فنصحني بالدخول في "دورة الصحة واللياقة" وهي دورة تدريبية عن الرياضة والغذاء الصحي ومتابعة الوزن بشكل دوري تستمر ثلاثة أشهر، قدمها أخصائي التربية البدنية الاستاذ جميل بدر المطيري والاستاذ حسن موسى مجرشي. ركزت الدورة على رياضتي المشي والجري الخفيف، وحينها بدأت بالرياضة ولم يكن في بالي التخلص مرض السكري.
خلال الدورة التدريبية كنت قد تأثرت بطرح الاستاذ جميل المطيري والاستاذ حسن مجرشي وبما قدماه في الدورة. وبعد أن انتهت الدورة كنت قد خسرت خلال ثلاثة أشهر حوالي 27 كجم من الوزن الزائد ووصلت الى 70 كجم. وقد تطرق الحديث في الدورة عن مجموعات المشي والمشاة، فبحثت عنهم في وسائل التواصل الاجتماعي. ولابد هنا أن أقول إن علاقتي في ذلك الوقت بوسائل التواصل كانت غير موجهة وتأتي من باب الترفيه، لكن تحول هدفي بعد ذلك من وسائل التواصل من الترفيه والتسلية إلى البحث عن المفيد صحيا ورياضيا.
وذات يوم صادفت إعلانا للمشاركة في تدشين مجموعة "مشاة حريملاء" فشاركت في التدشين والمشي في الطبيعة حوالي 11 كلم في شعيب حريملاء، وهناك تعرفت أكثر على مجموعة مشاة الرياض المحفزة والملهمة، وتعرفت في تلك الفعالية على الدكتور صالح الأنصاري، ثم انضممت إلى مجموعة مشاة حي الوادي. وفِي مرحلة المواصلة والاستمرار تأثرت بالدكتور صالح الأنصاري وبمشاركاتي مع مشاة الرياض الذين كانوا يهتمون بالمشي والتغذية الصحية والنمط المعيشي بشكل عملي ومؤثر. ثم انتظمت معهم في مشي المسافات الطويلة.
استمريت مع مشاة الرياض ما يقارب ثلاثة أشهر، خلالها بدأ المعدل التراكمي للسكر في النزول، وبعد خمسة أشهر من البدء في الرياضة والتغذية الصحية عادت الأرقام الى الوضع الطبيعي، وأبلغني الدكتور بضرورة التوقف عن العلاج نهائيا. وبعدها انطلقت من حب المشي الى الدراجة وشاركت مع مجموعة "دراجتي الرياض" لتنويع التمارين والمتعة وزيادة النشاط. وكانت أطول مسافة مشي مسافة 32 كلم في يوم واحد. أما بالدراجة فكانت مسافة 66 كلم وأطمع نحو تسجيل أرقام أعلى مستقبلا. وحقيقة لم أمر خلال مشواري ولله الحمد باي لحظات من اليأس أو الانتكاس ما عدا بعض الأحيان من ثبات الوزن لكن مع الاستمرار والمواصلة ما يلبث أن يتغير الرقم، ولَم أكن أحرص كثيرا على تكرار مراقبة الميزان.
بِعد فقد الوزن أصبحت إنسانا طبيعيا ألبس وأعمل بدون إحساس بالحمل السابق حتى أصبحت أرى نتيجة ما وصلت إليه في عيون من يعرفني سابقا ولله الحمد. أما روتيني الحالي مع المشي فلا يقل عن 10 كلم يوميا أو تمرين الدراجة ما بين 20 إلى 40 كلم.
نصيحتي لمن يريد التغيير من حالته صحيا وغذائيا ولياقيا بالاتجاه للرياضة، فقد تكاثرت في مجتمعنا حالات الاصابة بالأمراض المزمنة، والسبب ضعف النشاط البدني والراحة الزائدة. فينبغي تغيير النمط المعيشي والاتجاه للأكل الصحي وتنويعه والاكتفاء بالحاجة دون إفراط والعمل على تخفيض الوزن بشكل صحي وتدريجي مع ممارسة أي رياضة بانتظام لرفع اللياقة القلبية والعضلية مع تمارين المقاومة ورفع شدة التمرين تدريجيا. والمشي أحد أهم التمارين المناسبة للكل.
أنا سبقتك كمريض سكري وصلت إلى مرحلة الاعتماد على الانسولين ولم أكن أتصور أي فرصة للخلاص من هذا المرض الثقيل. اعتبرني مثالا حيا أمامك في فقد الوزن والتخلص من داء السكري وهذا ما لم يقله لي أحد لكني عايشت التعافي منه بنفسي. ولقد ملأني المشي حبا للصحة واللياقة، فليس من المعقول أن أترك الحركة أو أعود مجددا للخمول لا قدر الله.
الاستمرار على المشي والرياضة مطلب لمريض السكري، حتى لا تفقد أحد أطرافك أو أعضائك بسبب عادة غذائية أو راحة مملة تدفع ضريبتها غالية. كما أنصح بالبحث عن بيئة مؤثرة وملهمة تدعمك مثل بيئة مشاة الرياض، فعند حضور الإرادة ووضوح الهدف ومشاهدة نماذج ممن حققوا إنجازات كبيرة أمامك، وغالبا ستسلك نفس الطريق شريطة الالتزام والبعد عن المحبطين.
أرى العلاقة قوية بين المشي من بين الرياضات وبين التخلص من السكري فهو رياضة أقرب إلى الانتظام والاستمرار، ومصحوبة بالراحة النفسية وتلمس فيها الفائدة بشكل أوضح، وتلمس التغير في مستواك مرة بعد مرة وكيلو بعد كيلو وخطوة بعد خطوة حتى وصولك لقمة الصحة. كما أنك ترى في المشي مختلف أطياف المجتمع، ومنهم من هم أكبر منك سنا، ومنهم من يقطع يوميا عشرات الكيلومترات وتجد الفائدة ظاهرة عليهم. كما أنصح بالمشي لأنه الرياضة المحببة للجميع ويخفض الوزن ويعالج أيضا مشكلات صحية أخرى كثيرة.
أنا الآن مستمتع ولله الحمد بالحياة الصحية وبجسم رشيق وصحي وتخلصت من شكلي السابق بدون عمليات ولا برامج مدفوعة، ولا أرى شيئًا أهم من الصحة. أما نصيحتي لمن بدأ فأقول؛ لا تتوقف عن ممارسة الرياضة يوميا لمدة ساعة، وخذ راحة يوم في الأسبوع إذا كان التمرين عالي الشدة ليكون استشفاء للجسم مع النوم مبكرا وشرب الماء يوميا حسب احتياج الجسم. وابتعد عن الإكثار من الأرز والخبز الأبيض، واستبدله بالبر النخالة.... ودمتم بصحة وعافية.
مريض السكري سابقًا
مطلق مسير المطيري
أما أنا فبعد ان عرضت لكم القصة، فسأتساءل؛
لماذا لم يعط الطبيب مريضه فرصة للتحكم في السكري من خلال إنقاص الوزن والرياضة والنمط المعيشي قبل البدء بالأدوية ما دام المشكلة حديثة التشخيص، وما دام الوزن زائدا؟
لماذا لا يلزم النظام الصحي الأطباء بالتعامل (ولو على سبيل تجربة منظمة ومحدودة) مع مثل هذه الحالات بتغيير الوزن والنمط المعيشي والرياضة قبل اللجوء إلى استخدام الأدوية؟
لماذا استمر التعامل مع هذه الحالة بالحبوب ثم الانسولين ولم يتطرق للرياضة والنمط المعيشي، رغم أن الاستجابة للأدوية ليست على ما يرام وقراءات السكر تسوء ونسبة التراكمي في تزايد؟ وماذا ستكون النتيجة لو استمر هذا الوضع لسنوات؟
لماذا لا يشرك الطبيب المريض في المفاضلة بين طيف من الإجراءات ويعطيه فرص الاختيارات ويساعده في اتخاذ القرار؟
لماذا تُرك مطلق ويترك كل المستفيدين من النظام الصحي المصابين والمعرضين للأمراض المزمنة "يتسوقون" خارج النظام الصحي بحثا عن التوعية بالغذاء والنشاط البدني والمشي والنمط المعيشي الصحي، ولماذا اضطُروا لأن يستعينوا بالأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي؟
لماذا لم يستثمر النظام الصحي في المجموعات التطوعية في توعية المرضى؟ أم هناك ثقة (في غير مكانها) في التناول العلاجي البحت وكأنه لا حاجة لغيره؟
هل مثل حالة مطلق كمريض في أنظمة التعليم الطبي والخدمات الصحية الغربية الحديثة يجري التعامل معها فقط بالتناول الدوائي، أم أننا نتعامل مع نظام "مستورد" وخارج سياقه؟
ماذا ينتظر المعرضين للأمراض المزمنة والمصابين بها في ظل هذا التناول العلاجي المفصول كثيرا عن البعد السلوكي والمجتمعي، وأين هذا التناول عن رؤيتنا للصحة والمرض عام 2030
اسئلة اترككم لتفكروا فيها.
ودمتم سالمين
د. صالح بن سعد الأنصاري
@SalihAlansari
مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
@SaudiHPC