المشي وإبطاء إيقاع الحياة

  • click to rate

    كثيرا ما ننشغل بالعمل لساعات طويلة وبالتنقل من انشغال لآخر. وتغرينا فرص الإنجاز والنجاح بالاستمرار في هذا النمط المتواصل بالعمل نحو الإنتاجية، وبالانخراط في مزيد من الأعمال دون توقف... وقل ما يخطر ببالنا أن نتوقف عن العمل أو أن نبطئ وتيرة التفكير في الالتزامات ومتطلبات الإنجاز. وكثيرا ما نشعر بالحاجة لمزيد من الوقت ومزيد من التركيز والطاقة لإكمال المتأخرات، ملاحقين جداول ومواعيد تسليم لا تنتهي. 
    إن استمرار هذا الإيقاع عالي الوتيرة الذي تميز به عصرنا الحاضر وأسهمت فيه التقنية وأدوات تسريع الإنتاجية واختصار الزمن لم يكن جزءا من تاريخ البشرية ولا من طبيعتها بنفس القدر. وفي وسط هذه الظروف الغريبة من مراحل التاريخ نحن بحاجة إلى التوقف بانتظام وإلى إبطاء إيقاع الحياة بطريقة إيجابية، بل إن ذلك الإبطاء أصبح أكثر ضرورة وإلحاحا في زمننا هذا، فقد أصبحت السرعة التي تميز بها عصرنا مرهقة للبشر. فسرعة الإنترنت ووسائل التواصل ووسائل النقل اليومي بالسيارة أو بين الدول بالطائرات وقدرة الإنسان على إنجاز أعمال كثيرة في وقت قصير وضع الإنسان تحت ضغط شديدـ، فالآخرون من حولنا ينتظرون إنجازا سريعا وبالذات في مجالات الاتصال والتواصل وهو من أكثر ما يستغرق وقتنا وأعمارنا.
    وفد أصبح تواصل الإنسان التقليدي "البطيء" مع نفسه ومع الآخرين الذي يمتد لأوقات أطول ويتكرر بشكل أكبر أصبح نادرا، وهو مما يحتاجه لصحة نفسية وعقلية وعاطفية أفضل. كما تحول جزء كبير من هذا التواصل إلى تواصل افتراضي أكثر من أي وقت مضى، وأصبحنا كبشر أكثر حاجة لهذا الإبطاء من أجل تجديد الطاقة والتفكير الملي والمبدع.
    إن إبطاء إيقاع الحياة مطلوب كجزء من بشريتنا وطبيعتنا، لنعيش ببطء طبيعي ولنعيد التفكير الملي في أشياء كثيرة جدا. ولو تساءلت عن أسباب الإحباط والتوتر والقلق والسمنة والأمراض المزمنة في عصرنا الحديث لوجدت أن جزءا منها يحدث نتيجة للإيقاع السريع للحياة، فليس لدينا من وقت لنفكر في أكلنا ونومنا ونشاطنا وعلاقاتنا وفي عبادتنا لله، فكل شيء يحدث بشكل سريع يحتاج لإبطاء التفكير وإعادة وللتخطيط بانتظام.
    فكرت ذات يوم أن أكتب مقالا بعنوان "ماذا خسر العالم بفقد المشي" فقد خسر البشر المشي المتكرر ومعه الكثير من الصحة والتواصل الطبيعي، وفقدوا المشي كوسيلة كانت ممارسة على نطاق واسع وتسهم في إبطاء إيقاع الحياة الذي يتيح التأمل والتخطيط والحد من التنافسية وضبط إيقاع النوم. 
    إضافة إلى ما يقدمه المشي بانتظام للإنسان في صحته الجسدية والنفسية والاجتماعية والروحية. فهو من أجود ما نمارسه لنفكر بإبداع وتركيز، وهو من العادات المفتاحية التي تمهد الطريق للوصول للأهداف، فهو أقوى الوسائل وأكثرها تلقائية في جلب وتنظيم الأفكار، بل إن الانتظام في المشي يسهم كثيرا في إعطاء مشكلات الحياة والعمل حجمها وأهميتها الطبيعية لا أكثر، إضافة إلى تجديد الطاقة وطرد الخمول وتحسين المزاج وكفاءة الإنجاز. تقول ربيكا سولنت في كتابها "المشي وتاريخ الحضارات" ما نصه "العقل البشري يعمل بسرعة ستة كيلومترات في الساعة" وليتأقلم الإنسان مع هذا المعطى الفطري في طاقة الدماغ وسرعة تفكيره فإنه بحاجة إلى إبطاء سرعة العصر في عصر السرعة.
    ليسمح لي المشغولون على كثرة مشاغلهم وإلحاحها بأن أقول لهم "إذا كنت مشغولا فعليك بالمشي" فهو من أقوى وسائل إبطاء إيقاع الحياة وتنظيم التفكير ومراجعة الأولويات بانتظام. وقد اشتهر عن كثير من القادة والمبدعين والفلاسفة بممارسة المشي، وعادة ما يكون هؤلاء "المشغولين" خبراء في إبطاء إيقاع حياتهم، فسرعة الإنجاز في حياتهم ليست ميزة بل عيبا، فكثيرا ما يدرك الناس بعد فوات وقت طويل أنهم أجهدوا في صعود الأدوار العليا ليكتشفوا أنهم كان يصعدون البناية الخطأ. أو أن هناك مصعدا لم يستخدموه لانشغالهم بالصعود فقط.
    أما إذا أضفنا إلى حياة المشغولين إبطاء إيقاع الحياة من خلال المشي في الهواء الطلق ورحلات المشي في الطبيعية "الهايكنج" فإننا سنضيف نوعا عميقا من المشي التأملي، وكثيرا من التحفيز على مراجعة النفس والتفكير "خارج الصندوق" والوصول لدفعات من الأفكار الإبداعية، والكثير من تعزيز الصحة النفسية ومعالجة الاكتئاب. وهذا مما تظافرت عليه الابحاث والتجارب المتكررة لدى ممارسي الهايكنج.
    ومما قد يخطر لك وأنت تبطئ إيقاع الحياة بالمشي أعمال بسيطة وضرورية ضاعت في وسط اضطراب إيقاع الحياة، مثل سماع تفسير سورة الفاتحة أو تدوين يومياتك أو تتذكر زملاء وأصدقاء لم تتواصل معهم من سنوات طويلة، أو إلى علاقة مقطوعة مع صديق أو قريب حان وقت العودة إليها، أو مشكلة صحية تؤثر عليك وقد أهملتها، فإبطاء التفكير من خلال المشي بانتظام -ولو لوقت محدود من يومك- قد يعيدك إلى مثل هذه الأولويات، وقد يحميك من أن تصبح روبوتا يحركه الجميع نحو أولوياتهم هم وتنسى مع سرعة إيقاع الحياة أولوياتك. وقد تدرك بعد سنوات طويلة أن معظم ما أنجزته كان من أولويات الآخرين وليس من أولوياتك أو خططك.
    ومن تجربتي في الانتظام في المشي وجدته الأفضل في إبطاء إيقاع الحياة، فممارسة المشي كل يوم أو دمج المشي في الحياة اليومية يجعلني أجدول التأمل في كل شيء وبشكل تلقائي. وأعطيكم على ذلك مثالا... أتذكر في فترات الشباب من كان ينصحنا باستكمال أركان الثقافة من الكتب والروايات التي يوصي بها المثقفون وقالوا عنها أنها مما لا يسعك الجهل به، إلا أننا لم تتح لنا الفرصة لاستكمال هذه القائمة من الكتب التي تسساقطت الكثير منها مع تسارع إيقاع الحياة، إلا أني اهتديت مؤخرا إلى تطبيق يوجد عليه الأف الكتب المسموعة ومنها رواية استمتعت بها مؤخرا وأنا أمشي وقد كنت أتمنى قراءتها منذ زمن بعيد ومنها رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني الطيب الصالح. وكثيرا ما يخبرني أصدقاء المشي كيف عادوا إلى أنفسهم ورتبوا اهتماماتهم في الحياة. 
    فقط ابدأوا بالمشي والانتظام فيه تبطئوا إيقاع حياتكم، وستجدون أنفسكم عدتم لتحصيل الكثير في حياتكم الجسدية والنفسية والاجتماعية، وأضفتم جودة عالية إلى حياتكم، وكما يقولون "المشي والرياضة لا تضيف أياما إلى حياتك بل تضيف حياة إلى أيامك" ويصبح عمرك الذي كتبه الله لك عمراً حياً نابضاً بالحياة.

    ودمتم سالمين
    د. صالح بن سعد الأنصاري

    @SalihAlansari
    مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
    المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
    @SaudiHPC