تجربتي مع المشي...

  • click to rate

    بدأ اهتمامي بالمشي بصفته نشاطا لتحسين الصحة عام 1990 في بداية دراستي في الدراسات العليا لطب الأسرة والمجتمع بجامعة الملك فيصل، حين كنت أسكن في الخبر. وكان عمري آنذاك حوالي 29 عاماً. ومع أنني كنت أمارس كرة القدم في أيام التعليم العام والجامعة، إلا أنني انقطعت لحوالي سنتين عن كل أنواع الرياضة في بداية عملي كطبيب، وكنت أتعذر آنذاك بضيق الوقت، وكثرة الاهتمامات.
    ويرجع اهتمامي بالمشي إلى عدة مصادر: من أهمها أن في أسرتي تاريخاً للإصابة بداء السكري من النوع الثاني. وقد كان هاجس الإصابة بهذا المرض محفزاً وداعماً قوياً للاهتمام بالمشي كرياضة منتظمة تعزز الصحة. ومن حوافز المشي لدي المعرفة والاطلاع على علوم الطب والصحة. كما قرأت حوالي 24 كتابا عن المشي، ومؤخراً وبعد تعمقي في التواصل الاجتماعي من خلال تويتر وبقية المنصات زادت قناعتي والتزامي بشكل كبير برياضة المشي. 
    في البدايات كنت متأثراً بأستاذي ومعلمي الدكتور/ زهير بن أحمد السباعي، أستاذ طب الأسرة والمجتمع وعضو مجلس الشورى (سابقاً) وانتظامه في المشي. وقد سعدت كثيراً بمشاركته المشي وتبادل أطراف الحديث في كورنيش الخبر في نهاية الأسبوع بعد صلاة الفجر. كما شاركته المشي في سفراتي المتعددة معه بعد الفجر في كل من باكستان وبنجلاديش ولبنان، وكنت ألاحظ في الدكتور زهير التزامه العالي، كما كنت ألاحظ سرعته في المشي وحرصه على المشي بسرعات ومسافات أطول مما كنت أطيق رغم فارق صغر السن لصالحي، أسأل الله تعالى أن يحفظ عليه الصحة والعافية، وأن يبارك في عمره وعمله. 
    بعد انتقالي إلى المدينة المنورة، عملت حينذاك مساعدا لمدير عام الشئون الصحية للرعاية الصحية الأولية، ومساعداً للمشرف العام على الدراسات العليا لطب الأسرة والمجتمع في الشئون الصحية، وكنت أمارس المشي بحماس أقل، إلى أن مررت بتجربة قاسية كان لها دور في اهتمامي وانتظامي مرة أخرى في المشي. فذات يوم لاحظت تكرار التبول الليلي بشكل ملفت للنظر. وبحس الطبيب، أخذت في التفكير المتشائم ووضع الاحتمال الأسوأ أولاً، ألا وهو الخوف من مرض السكري. وقد نشرت تلك التجربة في مقال بعنوان "قصتي مع السكري". 
    كانت تلك التجربة من أهم الحوافز لمعاودة النشاط البدني. فقد كنت أمشي بعد صلاة الفجر حول سور مستشفى الملك فهد بالمدينة المنورة وكنت أحرص على ذلك بانتظام رغم انشغالي كمساعد للمدير العام للرعاية الصحية الأولية في المنطقة بما في ذلك مسؤوليات.
    بعد انتقالي إلى الرياض وعملي في وزارة التربية والتعليم، ومعرفتي عن قرب بمعالي وزير التربية والتعليم الأسبق، الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد الرشيد رحمه الله واطلاعي على تجربته في المشي وحرصه عليه بصفة يومية ما يتراوح بين ساعة إلى ساعتين يوميا رغم أعماله وانشغالاته، وقد كانت انشغالات وزير كافية لإقناع أولئك الذين لا يمشون بحجة ضيق الوقت. كان رحمه الله يقول "لو كان هناك رجل يتعذر بالانشغال وضيق الوقت عن ممارسة المشي والنشاط البدني لكنت أنا"، وهو محق في ذلك فالقضية قضية وعي واهتمام وموازنة بالأولويات الحقيقية.
    في عام 1999م سافرت في جولة دراسية في اليابان عن الصحة المدرسية وحضور المؤتمر السادس والأربعين للصحة المدرسية الذي عقد في مدينة ناجويا. كان شعار ذلك المؤتمر "مكافحة أمراض النمط المعيشي من خلال المدارس". وفي معرض مصاحب للمؤتمر رأيت عداد الخطوات واطلعت أيضا على الدراسات المنشورة حول هذا الجهاز. حيث أشارت إلى أن الحد المطلوب من الخطوات لتعزيز صحة الإنسان هو حوالي 10.000 خطوة يومياً. 
    اشتريت عدة أجهزة من هذا النوع، وأهديت بعضها لبعض الزملاء. واستخدمت أحد هذه الأجهزة حوالي ثلاث سنوات، ووجدتها محفزة ومعينة على الانتظام، وتساعد في متابعة التطور. ورغم أني كنت أدمج الكثير من المشي في حياتي اليومية، إلا إنني كنت بالكاد أصل إلى ما معدله6.000 أو 6.500 خطوة في اليوم. واستنتجت أن الوصول للعدد المطلوب من الخطوات لا يتم إلا بالانتظام في المشي لحوالي ساعة يومياً. وفي اليوم الذي لا أمارس فيه المشي لا أكاد أسجل أكثر من 1500 خطوة.
    في كثير من المراحل، كنت أنتظم في المشي بشكل يومي، وفي ساعة محددة. وأذكر أنني في فترة ما، كنت انتظم على المشي يومياً بعد المغرب مباشرةً ولمدة ساعة كاملة لعدة شهور دون أي انقطاع. وذات ليلة تأخرت عدة دقائق عن الموعد اليومي المعتاد فشعرت بخفقان خافت في ضربات القلب، وكأنه ينبهني إلى موعد المشي. فلقد كان أكبر معلم لي هو المشي نفسه والشعور بفوائده بطريقة عملية. وعند إعدادي كتاب "صحتك في المشي" وكتاب "المشي علاجاً للسمنة"، وأدركت الكثير من أسرار المشي التي مثلت لي مزيداً من الحوافز للاستمرار.
      كما أضفت لممارسة المشي ممارسة رياضة السير الجبلي (الهايكنج) Hiking فقد بدأت منذ عام 2005م في جبال الطائف بدعوة من معالي الأستاذ الدكتور/ أحمد محمد علي رئيس مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، ثم في نشاط تدريبي لطلاب الكليات الطبية في عسير والقويعية وفي العديد من الدول. ومنذ بدء التواجد في وسائل التواصل الاجتماعي عام 2011 بدأت العديد من رحلات المشي في الطبيعة مع أصدقاء تويتر في عيون الجوا في القصيم وطلعة القدية وجبل التوباد في الأفلاج. ولاحقا أصبحت استمتع بمشي المسافات الطويلة، حيث نخرج مع بعض الزملاء وفي ضواحي الرياض في أحد الطرق الزراعية ونمارس المشي لمسافات تزيد عن 9 كلم، وقد تصل إلى 25 كلم.
    وفي شتاء عام 2015بدأت تأسيس مشاة الرياض التي تكمل عشر سنوات من الانتظام في المشي فجرا كل جمعة ومشي المسافات الطويلة (21 كيلومترا) كل سبت ووصلت إلى حوالي 25 مجموعة فرعية في مختلف أحياء العاصمة الرياض ضمن مبادرة "أحياؤنا تمشي"، والتي تحولت هذه المبادرة مؤخرا إلى جمعية رسمية مسجلة رسميا في المركز الوطني للقطاع غير الربحي.
    أما عن تأسيسي لرياضة المشي في الطبيعة فقد بدأ من خلال مركز تعزيز الصحة من مطلع 2014 ثم بتأسيس مبادرة دروب العرب ونفذت أكثر من 200 رحلة مؤسسية داخل وخارج المملكة وشملت الوصول إلى قمة جبل كيليمانجارو في تنزانيا وقمة سانت كاترين في سيناء. وعلى هامش تلك الرحلات الداخلية أسست العديد من مجموعات المشي في مختلف مناطق المملكة. 
    وقد قدمت العديد من الدورات التدريبية والمحاضرات العامة، وأشرفت وشاركت في العديد من البرامج وحملات النشاط البدني عموماً والمشي خصوصاً. ومن ذلك نشاط التسنيدة الذي تقيمه إدارة تعليم ينبع والذي يمارس المشاركون فيه المشي لمسافة تصل إلى حوالي 34 كيلومترا.
    أما في السفر فاستمتع فيه بالمشي فجراً وقبل الانشغال واضطراب برنامج اليوم. وفي رمضان أمشي في الساعة الأخيرة من النهار وقبيل الإفطار. فقد وجدتها وسيلة فعالة للتخلص من الكيلوات التي تتجمع كل عام، أما السير الكهربائي فاحتفظ به فقط للظروف الجوية السيئة وفي حالات "الانشغال" حيث اكتفي بنصف ساعة شديدة السرعة.
    ومنذ عام 2020 بدأت حضور المؤتمرات العالمية للمشي في كل من سيئول ودبلن ورواندا ومؤخرا في تيرانا عاصمة ألبانيا، وقدمت فيها أوراقا علمية عن جهودي في نشر ثقافة المشي واستثمار وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الثقافة وأخرى عن تكوين مجموعات المشي كاستراتيجية لنشر ثقافة المشي في المجتمع السعودي والخليجي والعربي. 
    بعد مرور حوالي خمسة وثلاثين عاماً من الانتظام في المشي اكتسبت الخبرة والقدرة على التأقلم والمحافظة على عادة المشي صيفاً وشتاءً وفي رمضان بل وفي السفر والمواسم وغيرها، وأصبح من الصعب على العيش بدون المشي. وأذكر أني تعمدت ذات مرة الانقطاع عدة أيام عن المشي لمدة أطول لأنظر ماذا يحدث لي، فلم أستطع، فقد زادت ساعات نومي، وقل تركيزي في أعمالي، وقلت همتي للعمل، وأصبحت أشعر بالتوتر وعدم تحمل الضغوط، فلم أستطع الاستمرار، فوجدتني في آخر ليلة أقرر الخروج للمشي الساعة 12:30 بعد منتصف الليل. 
    إن كثيراً من مشروعاتي في العمل، وحياتي الخاصة لا تتبلور أفكارها ولا تنتظم في زحمة العمل أو ساعات الراحة بل تتضح وتتبلور أثناء المشي. وكثيراً ما تحدث المشكلات العويصة في العمل أو في الحياة الخاصة، فكنت أؤجل التفكير فيها إلى أن تفرض نفسها علي، أو يأتي الحل بالتفكير المتأني، وكثيراً ما أجد للمشكلات العديد من الحلول والمخارج أو على الأقل أعطيها حجمها الحقيقي. لقد أصبحت أرى المشي حلاً للعديد من المشكلات في حياة الفرد والمجتمع، بل وجدته قضية محورية، في شئون الصحة والمجتمع.
    ومع تكرار المشي وحبه والتعلق به اصبحت انتهز كل فرصة للتخلص من قيود السيارة، فعندما أكون راكباً مع أحد تجدني أسبقه مشياً في اتجاه السير إلى أن يصل إلى سيارته ويخرجها من موقفها ليجدني قد مشيت ثلاث أو خمس دقائق. لقد أكسبني المشي شعوراً بالحرية والتحرر من القيود والوصول إلى المكان الذي أريد. ولم أعد اعتبر المشي وسيلة لتحسين الصحة وحسب، بل فرصة للتأمل والتفكير و"صيد" الأفكار وبلورة المبادرات، والتقاط السوانح من التغريدات التي أحب أن أشرك فيها الآخرين. فكثير من أفكاري التي مثلت نقلة في حياتي خطرت لي او تبلورت بوضوح وأنا أمشي.
    لقد وجدت في المشي أسراراً وفوائد أحب أن يجدها كل الناس، فإضافة إلى ما أوردت في كتبي ومقالاتي من فوائد، وجدت أن المشي يختصر على الكثير من الوقت، ويسرع في إنجازي، وذلك من خلال تحسين الأداء والتخطيط للعمل والحياة الخاصة بل تحسين جودة الحياة كلها، وكنت أحرص على أن يكون لدي ورقة وقلم أو هاتفاً ذكياً أثناء المشي لأدون أهم الأفكار خشية نسيانها.
    أتطلع إلى اليوم الذي تنتشر فيه ثقافة المشي، وتتحسن فيه ظروف المشي وسلامة وحقوق المشاة كما يحدث في المدن المهتمة بها النشاط البشري، وتترسخ فيه حقوق المشاة من أجل مجتمع يمشي.

    د. صالح بن سعد الأنصاري

    @SalihAlansari
    مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
    المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
    @SaudiHPC

    ودمتم سالمين

    اري