الفكرة والبداية
بدأت الفكرة مع تفاقم المجاعة وبالأحرى التجويع الممنهج الذي يمارسه الكيان الصهيوني الإجرامي على أهلنا في غزة، فقد انطلقت دعوات من جهات كثيرة في العالم تدعو للدعم أو الترابط العاطفي عن طريق الصوم أو تقليص كمية الطعام المتناولة وتخفيض المشتريات، وقد دعمت الجمعيات الدعوية الإسلامية في كندا هذا التوجه، وبحكم إقامتي في كندا فقد قررت خوض التجربة.
تجارب الصوم السابقة
سبق وأن جربت الصوم المتقطع بأنواعه المختلفة خاصة خلال أيام العمل بحيث تكون مدة الصوم ٢٠ ساعة وساعات الأكل 4 ساعات فقط. كما جربت سابقا في الرياض وفي كندا الصوم لثلاثة أيام متتالية وكانت تجربة ناجحة غردت عنها سابقا في حسابي على منصة إكس. وقد قرأت عشرات المقالات وشاهدت أيضا العشرات من المقاطع المرئية عن الصوم الممتد لمن أراد إطالة مدة الصوم لأكثر من ثلاثة أيام، وذلك بهدف تنشيط الذاكرة عن الموضوع، فقد كنت على إلمام به خلال رحلتي إلى الالتزام بمنهج النمط المعيشي الصحي. وفي هذه المرة قررت خوض تجربة مختلفة تستمر مدة أطول. وقد كان بإمكاني الاكتفاء بأسبوع واحد، لكني قررت تمديد الفترة وصولا إلى شهر كامل، وبالذات بعد أن رأيت الفوائد في الأسبوع الأول من التطبيق.
الأهداف
كان أول أهداف هذه التجربة التضامن مع أهلنا في غزة للشعور بما يشعرون به والامتناع عن الطعام كالمحرومين منه. ومن الأهداف أيضا ممارسة تجربة شخصية في الانتفاع بفوائد الصوم الممتد الذي كونت عنه ثقافة جيدة ودرست خصائصه وطرق تطبيقه بعناية فائقة..
الخطة
أخذت بعين الحسبان عدم حدوث أذى أو ضرر للجسم خلال التجربة، وهذا ضروري جدا. وكان لدي قرار من البداية بقطع الصوم في حال حدوث حالة من اثنتين: الجوع الشديد الذي لا يطاق، أو حدوث عوارض غير صحية على الجسم. وقد كنت أراقب المؤشرات الحياتية يوميا بانتباه شديد.
التغذية خلال الصوم الممتد
أهم ما يجب تناوله مع الماء هو الشوارد (Electrolytes) من المعادن والأملاح مثل الصوديوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم والكالسيوم. فمن دونها سيحدث إعياء شديد للجسم ودوار وخلل في توازن الجسم وعجز عن القيام بوظائفه اليومية. ويمكن ذلك عن طريق تناول مكملات غذائية أو مرق العظام الذي شرحته في تغريدة سابقة، وقد جربت الطريقتين.
وباتباع الطريقتين يمكن أيضا تناول كمية قليلة من البروتين خاصة الكولاجين (Collagen) لأنه يساعد على الحفاظ على الكتلة العضلية. والجدير بالذكر أن الصوم أيضا يعزز هرمون النمو الذي يلعب دورا في الحفاظ على الكتلة العضلية. أما السوائل الأخرى المسموحة فهي القهوة والشاي والأعشاب والزهور المغلية وغيرها من دون إضافات من قبيل السكر أو الحليب أو العسل. وقد شربت أيضا الماء مع الملح سواء ملح الطعام أو ملح الهملايا، وهذا يعزز الشعور بأهلنا في غزة الذين اضطروا لشرب الماء مع الملح. ولم يكن لدي مانع أيضا من تناول بعض الفيتامينات وأوميغا 3 عن طريق كبسولات زيت كبد الحوت وغيرها.
الرياضة
استمريت في ممارسة المشي وبشكل معتدل خاصة المشي في الطبيعة والهواء الطلق فهو الرياضة المفضلة والمناسبة مع تجربة الصوم الممتد، وتراوحت المدة بين نصف إلى ساعة لتعزيز صحة القلب. ويحبذ أيضا ممارسة تمارين القوة والمقاومة باعتدال وشدة متوسطة مثل تمارين الاستطالة مما يعزز أيضا الحفاظ على الكتلة العضلية.
الفوائد والإيجابيات
• نشاط وحيوية خلال اليوم وعدم شعور بالإعياء والتعب
• صفاء التفكير والتركيز في العمل
• عدم الإحساس بالجوع أو اشتهاء الطعام
• جودة نوم عالية جدا، وبالتالي شعور بالنشاط الذي احتجته خلال النهار مع الصوم الممتد
• راحة نفسية وعدم الشعور بالتوتر والقلق
السلبيات
قد تكون السلبية الأبرز في تجربتي الإحساس بالجفاف في الفم ويحدث هذا حتى مع تناول السوائل، ويمكن حله بتوزيع شرب السوائل على مدة طويلة ورشفها ببطء أو مضغ العلك الخالي من السكر. ولست أذكر السلبيات للتحذير من البدء في تجربة مشابهة ولكن للاستعداد لمثل هذه السلبيات وتوقعها مبكرا.
حالة الجسم الصحية خلال الصوم الممتد
طبعا بعد ثلاثة أيام من الانقطاع عن تناول الطعام يدخل الجسم في الحالة الكيتوزية (Ketosis) وهي حالة أيضية طبيعية يدخلها الجسم عندما يقل استهلاك الكربوهيدرات بشكل كبير ويبدأ حرق الدهون للحصول على الطاقة بدلاً من السكريات، وذلك بإنتاج الأجسام الكيتونية (Ketone Bodies) بتكسير الدهون في الكبد بعد استنفاد السكر كمصدر للطاقة، وهكذا يبدأ الجسم في استخدام الدهون كمصدر بديل للطاقة. ويفقد الجسم أيضا في عملية الحرق تلك الكثير من السوائل والأملاح والمعادن، ولذلك ينبغي الإكثار من شرب الماء مع الأملاح والمعادن كما أشرت سابقا. وغالبا سيتوقف عمل الأمعاء والإخراج بعد أيام قليلة من الصوم خصوصا إذ بدأ بعد وجبات طعام عادية وكميات معقولة. وقد يحدث إخراج قليل جدا حتى بعد ذلك بعدة أيام للتخلص من البقايا الموجودة في الأمعاء.
الحالة النفسية والمعينات على الاستمرار
لا شك أن التوكل على الله واستحضار النية كانا أهم عاملين في العون على الاستمرار مما عزز الحالة النفسية أثناء خوض التجربة. كما كان تقبل العائلة وتفهمها الكبير وثقتهم من العوامل المساعدة أيضا، فلم أجد أي إحباط منهم، وقد كان للفوائد المحققة خلال الصوم نفسه دور في الاستمرار، وقد زاد الحماس للاستمرار بعد مضي الأسبوع الأول.
فقدان الوزن
سيختلف مقدار فقدان الوزن من شخص لآخر بحسب عدة عوامل من أهمها نسبة الدهون في الجسم ومعدل الأيض المتعلق بالعمر والجنس وغير ذلك. ويمكن للشخص فقدان حوالي نصف كيلوغرام يوميا. ويفقد الجسم في الأيام الأولى نسبة أكبر من الوزن بسبب فقد الماء ويتراوح الفقد السريع للوزن من 3 إلى 5 كيلوغرامات. ثم يتحول بعد ذلك إلى فقدان الدهون باستخدامها كمصدر للطاقة. ويستعيد الجسم أغلب الماء بمجرد قطع الصوم لكنه لا يستعيد الدهون بنفس السرعة وبالذات إذا كان النظام الغذائي المتبع بعد كسر الصيام جيدا. وفي حالتي تحديدا فقدت ١٥ كيلوغراما خلال ٣١ يوما.
الفرق بين الصوم الممتد المجاعة أو التجويع
يستطيع الإنسان السليم صحيا العيش من دون طعام لعدة أيام حتى يصل إلى حالة الجوع الحقيقي، فالكثير من الناس لا يفرقون بين الجوع والحاجة للأكل وبين الأكل العاطفي بسبب الشهوة. وما طبقته في التجربة كان صحيا بحيث لا يحصل أي أذى للجسم خاصة بما يتعلق بالتغذية خلال الصوم الممتد وبعده. وما يحدث مع إخواننا وأخواتنا في غزة هو تجويع ممنهج بحيث يصبح الحصول على الطعام نادرا جدا، وحتى عند توفره تكون جودته متدنية أو غير مناسب بعد جوع طويل، مما يسبب مشكلات صحية لهم ويفاقم من مشكلاتهم الصحية خاصة في الجهاز الهضمي إذ يضطرون لتناول كميات غير كافية وأنواع غير ملائمة من الطعام، وتتفاقم المشكلة طبعا عند الأطفال وكبار السن. وفي تجربتي الشخصية بدأ الإحساس بقرقرة المعدة بعد ٣ أسابيع من الصوم لكن لم يحدث معي أي تقلصات قوية موجعة في البطن.
هل يصلح لكل الناس وهل أنصح بالتجربة؟
هذا النوع من الصوم الممتد لا يصلح لمن عنده بعض الأمراض مثل أمراض الكلى وأمراض الجهاز الهضمي وأمراض القلب خاصة الضغط المنخفض والنقرس ومن لديه اختلال في التوازن في تناول الطعام. وطبعا لا يلائم الحوامل والمرضعات والأطفال والكبار في السن. أما الشخص الرياضي الذي يغلب على جسمه نسبة الكتلة العضلية فقد لا يستطيع الصوم لمدة طويلة لأن الجسم قد يذهب إلى حرق العضلات بعد وقت قصير من استنزاف الدهون من الجسم.
وسيختلف الأمر أيضا من شخص مبتدئ إلى شخص متمرس. على افتراض أنه لا يوجد أي من المشكلات الصحية المذكورة أعلاه (وضروري استشارة الطبيب هنا) يمكن للشخص البدء بالصوم يوما كاملا ثم زيادة المدة إلى ثلاثة أيام ثم إلى أسبوع قبل تجربة شهر كامل. والتغذية بعد الصوم هي أهم عامل هنا لنجاح التجربة والاستفادة من الصوم الممتد.
ومن الضروري أيضا عمل الفحوصات الطبية قبل خوض هذه التجربة للتأكد من خلو الجسم من المشكلات الصحية المانعة للصوم الممتد ومتابعة المؤشرات الصحية خلال تطبيقه وأنصح المبتدئين الذين لا يملكون ثقافة صحية كافية لخوض مثل هذه التجربة بأن يكون تحت إشراف أخصائي في التغذية والطب.
أهمية طريقة العودة للتغذية بعد الصوم الممتد
يخطئ الكثيرون في طريقة العودة للتغذية (Refeeding Plan) عند قطع الصوم الممتد مما يعرض الجسم للإصابة بالكثير من المشكلات الصحية مثل النفخة والتقلصات والإسهال والدوران وارتفاع نبضات القلب وغيرها، وهو ما يسمى "متلازمة الإغراق" (Dumping Syndrome) وسببها سرعة انتقال الطعام من المعدة إلى الأمعاء الدقيقة، وتنجم عن تناول الطعام بكثرة وبالذات بتناول الكثير من السكر، بعد أن يكون الجهاز الهضمي في حالة خمول لمدة طويلة، لذا فالتدرج ضروري جدا عند العودة لتناول الطعام.
وينصح بالبدء بوجبتين خفيفتين جدا فقط والحفاظ على الأملاح والمعادن يوميا، الوجبة الأولى ينصح بأن تكون من مرق العظام مثلا والوجبة الثانية تكون بكمية قليلة من البروتين مثل البيض أو السالمون مع القليل من الخضار التي تحوي على القليل من الكربوهيدرات مثل السبانخ والفطر والكوسا أَو الخضار المخمرة طبيعيا. ويمكن أيضا تناول سلطة من الخضار الورقية الخضراء مع مصدر بروتيني مثل قطع صغيرة من صدور الدجاج مع ضرورة البعد عن الإكثار من السكر (حتى السكر الطبيعي مثل الفواكه الحلوة والنشوية) في المراحل الأولى من كسر الصيام.
في البداية من الضروري أيضا تجنب تناول الأطعمة الغنية بالألياف والدهون، ويتوجب إدخالها بالتدريج ومثل ذلك إدخال المكسرات ومشتقات الألبان والخضار الغنية بالألياف. وبعد ذلك بأيام يمكن إدخال الكربوهيدرات الصحية بكميات قليلة مثل الفواكه لمن أراد ذلك أو الاستمرار في نظام صحي خال من الكربوهيدرات.
تحديات اجتماعية
لم يعلم بهذه التجربة إلا من هم في دائرة اجتماعية ضيقة مثل العائلة والأقارب وبعض الأصدقاء المقربين. تفاوتت ردود الفعل بين المستغرب والمندهش والداعم. وقد كان تفهم العائلة سندا كبيرا في الاستمرار ونجاح التجربة
ماذا عن المستقبل؟
أعتبر تجربتي ناجحة جدا بكل المقاييس. وقد كان بالإمكان الاستمرار أكثر من شهر لكني قررت التوقف والانتباه للتغذية بعد قطع الصوم حيث تستغرق العودة المتدرجة حوالي أسبوع. أما إن سئلت: هل سأكررها في المستقبل؟ هذا وارد جدا، وقد أكتفي بمدة أسبوع على أن أكرر الصيام مرات أكثر.
ختاما
نسأل الله الإخلاص في القول والعمل والقبول منه وأن ننتفع وننفع، وأن يرفع الغمة عن أهلنا في غزة. اللهم أطعمهم من جوع واسقهم من عطش وارزقهم من فضلك الواسع.
أتقدم بالشكر الجزيل لأستاذي أبي حسان الدكتور صالح الأنصاري على مراجعة هذا المقال وإبداء ملاحظاته وتوجيهاته القيّمة.
ودمتم سالمين
أخوكم، حسان الفلو
@hafalou