تصوراتنا عن الصحة وتصحيح المسار

  • click to rate

    يقول علماء الأصول: «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» وهذه ليست حكمة لغوية فحسب، بل قاعدة فكرية عميقة تؤكد أن الأحكام التي نصدرها والمواقف التي نأخذها من الأشياء والأقوال والأفعال تنبع من التصورات الذهنية التي نحملها في عقولنا. وهذه التصورات هي التي تصوغ المواقف وتحدد طبيعة السلوك. بل يمتد أثر التصورات إلى تحديد الهوية وتكوين العلاقات واتخاذ القرارات. ولذلك فإن إصلاح المسارات يبدأ من إصلاح التصورات.

    أحاول في هذا المقال مراجعة تصوراتنا عن الصحة، وأثر ذلك في تصحيح مسارنا في المجال الصحي.

    ماهية التصور وخصائصه
    التصور، هو تشكيل أو إدراك لصورة ذهنية أو معنى لشيء ما. وهو نتاج لمعارف متداخلة تتكون بالتعليم والتجربة والثقافة والعاطفة. ومن أبرز سمات التصور أنه:
    •    كامن ولا يصرح به غالبا لكنه يترجم في المواقف والسلوك.
    •    هو المحرك الخفي للأفكار والأحكام وموجه رئيس للقرارات.
    •    ليس ثابتا بل يتأثر بالزمان والمكان والعمر وتغير التجربة.
    •    يمكن أن يتغير ويتطور مع نضج الإنسان واتساع مداركه.
    •    هو العدسة التي تفسر رؤيتنا للعالم بما يختلف عن الآخرين.

    مصادر تكوين التصورات
    يبدأ الإنسان ببناء تصوراته منذ الطفولة الأولى وتتداخل في تشكيلها مؤثرات عديدة داخلية وخارجية.

    العوامل الخارجية المحيطة بالإنسان
    •    الأسرة: هي المدرسة الأولى التي تلقن الطفل تصوراته وتغرس فيه القيم الأولى وغالبا ما تبقى راسخة مدى الحياة.
    •    الأصدقاء، وفي مرحلة معينة قد يفوق تأثيرهم تأثير الأسرة لأنهم يقدمون نموذجا للتقليد والمقارنة.
    •    المجالس والمجتمعات المحلية، وفي بيئتنا الشرقية تلعب المجالس دورا قويا في ترسيخ العادات والمفاهيم.
    •    وسائل التواصل الاجتماعي، وقد أصبحت أقوى المؤثرات الحديثة في إعادة تشكيل التصورات الفردية والجماعية.
    •    التجربة الحياتية، كالمواقف المؤثرة أو الاحتكاك بأشخاص مميزين مختلفين والسفر ومعايشة ثقافات مختلفة. 
    •    المؤسسات الرسمية بما فيها المؤسسات التعليمية والإعلامية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. 
    •    المؤسسات العالمية، بنفوذها العلمي والتنظيمي وتأثيرها على تشكيل تصورات ومواقف المختصين وصناع القرار.

    العوامل الداخلية في النفس البشرية:
    هي العوامل المنبثقة من النفس من حيث التكوين العقلي والنفسي والثقافي مثل مستوى الثقة بالنفس والتجارب الحياتية والميل إلى التفاؤل أو التشاؤم والتحيز المعرفي مثل «تأثير الإرساء» الذي يجعلنا نلتزم بأول معلومة نتلقاها، أو «تأثير التأكيد» الذي يجعلنا نبحث عما يدعم قناعاتنا، و«تأثير الهالة» الذي يدفعنا إلى تعميم حكم جزئي على صورة كاملة، و "تأثير الهروب" الذي يجعلنا ننفر من كل ما هو جديد، حتى لو كان صالحا. وهذه العوامل بمجموعها تصوغ من الداخل منظومةً فكريةً خفيّةً تُوجّه سلوك الإنسان وتقرّر مواقفه.

    تصورنا عن الصحة بين الحداثة والرشد الرباني 
    في الشأن الصحي كما في غيره من ميادين الحياة تتحكم في تصورات البشر قوتان متقابلتان: الأولى، العقل والتجربة البشرية بما تحمله من تراكم علمي وموروث حضاري. والثانية: الاسترشاد بالوحي الإلهي المستمد من كمال العلم الإلهي وإحاطة الخالق جل وعلا بكل شيء.  وفيما يلي استعراض لأهم معالم التصورين في المجال الصحي.

    معالم التصور الغربي الحديث للصحة:
    •    غالبا ما ينظر للصحة كوظيفة بيولوجية جسدية تقاس بقدرة الجسد على أداء مهامه اليومية مثل أقرانه.
    •    الإنسان كائن مستقل وحر في اختياراته الصحية بعقله ووفق رغبته الفردية دون قيد من المجتمع أو الدين.
    •    يغلب فيه التعامل مع مشكلات الجسد مثل الآلة التي يصيبها خلل ميكانيكي ويمكن إصلاحها بالأدوية والتقنيات.
    •    تسيطر عليه البحث العلمي المادي أكثر من حكمة وموروث البشر الواسع، ولدرجة توظيف الذكاء الاصطناعي.
    •    يقدم الأمراض المزمنة كأمراض مستدامة تحتاج أدوية مدى الحياة ويقل دور فيها إدارة السلوك وأنماط الحياة.
    •    يصرف الموارد في مراجعة قضايا محسومة، كضرر الكحول وأدوية إطالة العمر والوصول للإنسان الخارق... إلخ
    •    ينظر إلى الطب كاقتصاد ومجال للاستثمار، ويقدم خدماته مقابل المال ويستثمر تزايد الاحتياج والطلب.
    •    يصدر موارد الأنظمة الصحية العلاجية بشكل مستقل ورأسي يقدم حبة لكل مرض وتدخلا لكل مشكلة صحية.
    •    يصمم الأبحاث والتقنيات الصحية ويحتكرها ليحقق الأرباح حتى لو أصبحت بعيدة عن متناول غير القادرين.
    •    تكاد الحضارة الغربية ومنظماتها أن تحتكر الكلمة الفصل في مشكلات الصحة وتفرض معايير إنفاذها عالميا.
    •    نموذجه حدي في تقسيم فصل التخصصات الصحية وعزلها بشكل رأسي ومتوازي، فلا تكاد تلتقي أو تتكامل.
    •     تعيد النظر في الأغذية والأشربة المغذية التي تُحلها الأديان كالدهون واللحوم والحليب، وكأنها تحرم ما أحل الله.
    •    ثبات التناول "الصحة العالمية" بلا مراجعة جادة حتى مع تزايد الأمراض وضغطها على موارد الصحة والمجتمعات.

    الصحة في التصور الإسلامي الرشيد
    •    ينظر للصحة كنعمة ووسيلة لعمارة الأرض وتحقيق غايات الخلق والقيام بالواجبات وتحمل مسؤوليات الحياة.
    •    الإنسان مستخلف في صحته ومطالب يحفظها وليس مخيرا في التفريط فيها ولا ممارسة ما يضرها.
    •    يقدم الوقاية ويتناول محددات الصحة بالتحليل والتحريم والكراهة، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. 
    •    التوجيهات الصحية ثابتة بثبات مصدرها في الوحي وصالحة لكل زمان ومكان، لا يبدلها تجدد العلوم والأبحاث.
    •    ينظر للصحة كنتيجة للمواءمة بين احتياج البشر وحفظ موارد الأرض والعناية بالبيئة كالماء والهواء والنبات... 
    •    يركز على اعتدال المأكل والمشرب والنوم والعمل كوسيلة لحفظ الصحة ويحذر من الإسراف في الشهوة واللذة.
    •    يوازن بين الجسد والروح والعقل بتكامل وشمولية ووسطية في فهم الصحة والمرض وتقديم التدخلات اللازمة.
    •    يقدم الجوانب الروحية والعبادية مثل الرضا والتوكل والإيمان كعوامل أساسية ومكملة للصحة في كل أبعادها.
    •    يقاوم تحويل الصحة إلى سلع وخدمات، ويقدم الرحمة والإحسان والمسؤولية الاجتماعية على الجشع والاحتكار.
    •    ينظر إلى الصوم والصبر وضبط الرغبات كوسائل لتعزيز الصحة لا يراه حرمانا من النعم ويفرق بينهما بوضوح.
    •    يقدر ويوظف الوسائل العلاجية الطبيعية كالأعشاب والحجامة وغيرها ضمن تناول علمي وثقافي متكامل.
    •    يقدم الصحة كنموذج حضاري عربي وإسلامي وعالمي ويعمل على نشره رحمة للبشر ومن دون احتكار ولا جشع. 
    •    يوفر الانسجام بين توظيف معطيات الطب الحديث والموروث الحضاري ويتيح الأخذ بالحكمة فهي ضالة المؤمن.

    وهذا التصور يبني أيضا على أن الله سبحانه خلق الإنسان في أحسن تقويم ومنحه أسباب الحماية والوقاية والمناعة بحيث لا يسهل إتلافه إلا من خلال إبذاء الأخرين أو التعرض للأمراض شديدة العدوى أو بتقدم العمر وانتكاس الخلق. ومن الصعب على الإنسان إتلاف حياته إلا بإبذاء النفس على المدى القريب أو بالتعرض للتلف المزمن بسبب السلوكيات المؤذية. كما أن الله تعالى خلق في الإنسان القدرة على تعافي والتئام أنسجته وبشكل تلقائي ومدهش بعد إزالة الضرر. وهذا التعافي التلقائي يمكن استثماره في النظر للصحة والمرض وبالذات في الأمراض المزمنة المتعلقة بأنماط الحياة.
    ولقد قدّمت الحضارة العربية والإسلامية نموذجًا حضاريا في حفظ الصحة الجسد والعقل والروح ويجمع بين العلم والإيمان ومعارف الطبّ وممارسات الإحسان. وقد تجسّد هذا النموذج في تاريخ المسلمين عبر مشروعات اعتمدت على الزكاة والأوقاف، وكان الطبيب فيها عالِمًا بالبدن رفيقًا بالنفس رحيماً بالناس.

    تصوراتنا المستوردة بين الأصالة والرشد
    انفتح العالم الإسلامي على التقدم الطبي الغربي الحديث الذي ظهر في وقت تراجعت فيه الحضارة العربية والإسلامية واعتمد العرب والمسلمون على استيراد نموذجه الفكري عن الصحة، وأصبحت مناهجنا الطبية ومؤسساتنا الصحية تسير وفق التصور الحداثي. وقد تجلت آثار ذلك الأخذ بهذا التصور في شيوع أمراض النمط المعيشي في كل العالم، وفي محدودية التناول المجتمعي الذي يقوم على الوقاية والتوعية وعلى توظيف المسؤولية الاجتماعية، وفي استمرار التناول العلاجي البحت للصحة. ولم يكن العالم العربي والإسلامي بدعا في متابعة المنهج الحداثي بل أمعن العالم كله في نقل التقدم الطبي الغربي، وتراجعت من العالم الكثير من الفلسفات والحضارات حول الصحة تاركة الساحة للتوجه الغربي الحديث.

    نحو تصحيح التصورات الصحية
    إن تغيير الممارسات لا ينصلح إلا بإصلاح التصورات ومراجعة المفاهيم الصحية التي نقلت إلينا من الغرب دون تمحيص. فعملية الإصلاح الصحي الحقيقي سينبني عليها تعديل الأنظمة والسياسات الصحية. فالصحة ليست مجرد إنقاذ للغرقى وليست مجرد أرقام ومؤشرات وتقارير بل عمل راق تمارسه المجتمعات في حياتها اليومية. وسينبني على تصحيح التصورات أيضا مراجعة التعليم الطبي بمختلف مستوياته وتعزيز البعد الثقافي والروحي واللغوي في المجتمع وتوظيف الحِكم الأصيلة عن الصحة والمرض. كما ينبني على ذلك التصور أيضا تعزيز الوعي العام ومواجهة ما ينشر عبر الإعلام ووسائل التواصل والحث على الأخذ الناقد لا التلقي السلبي.  ولابد من الإشارة إلى أن هذا التصور لا يغلق الباب أمام الأخذ المتنور من الحضارات الأخرى، بل يفتح الباب واسعا أيضا أمام تصدير الحضارة الصحية وتعديل مسار العالم من كون الطب تجارة إلى عبادة ورسالة حضارية.

    خاتمة ودعوة
    لقد هيمن التناول المادي العالمي على التصوّرات الصحية لعقودٍ طويلة، وأخذت تلك التصورات فرصتها في التجربة، واتضحت مآلات الأخذ بها. ولقد أصبح العالم اليوم يبحث عن توازنٍ جديدٍ يدمج العلم بالقيم والعقل بالروح والإنجاز بالمعنى. ولقد آن لنا -أفرادًا ومؤسساتٍ ومجتمعاتٍ- أن نعيد تصوراتنا عن الصحة والحكم عليها من منظور يغير ممارساتنا وواقعنا الصحي نحو الأفضل.
    وعلى القائمين على الأنظمة الصحية والعلماء والمفكرين والأطباء إعادة النظر في تصورهم للصحة والمرض والطب وأن يتحرروا من أسر التقليد ليبنوا نموذجا حضاريا يستلهم الرشد الرباني ويستفيد من منجزات العلم الحديث بانتقائية وتدقيق ووفق بوصلة حضارية واضحة. ومن أحسن التصور أحسن العمل ومن أحسن العمل نال الصحة بمعناها الأسمى والأعمق والأشمل وبأقل التكاليف، فمن شأن هذا التناول توفير الغالبية العظمى من موارد الصحة وتحسين جودة الحياة ورفع إنتاجية المجتمعات.

    ودمتم سالمين.
    د. صالح بن سعد الأنصاري

    @SalihAlansari
    مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
    المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
    @SaudiHPC