كثيراً ما توجه الدعوة بممارسة رياضة المشي إلى الخاملين وزائدي الوزن والمعرضين للأمراض المزمنة. واليوم أوجه الحديث بالاهتمام بالمشي إلى الرياضيين المحترفين في مختلف الرياضات التنافسية ورواد النوادي الصحية وخصوصاً من الشباب، وأدعوهم إلى أن يضيفوا المشي إلى الرياضات التي يمارسونها وألا يحذفوه تماماً من جداولهم. لأنهم في نهاية المطاف لابد أن يربطوا ممارستهم للرياضة بحفظ وتعزيز صحتهم وليس فقط بالرياضات التنافسية التي يمارسونها.
عند الحديث عن المفاضلة بين الرياضات من حيث مردودها على الإنسان قد يُستنتج أنه لا يوجد رياضة "مثالية" إلا أن العديد من المتخصصين عندما يستعرضون مواصفات "الرياضة المثالية" يجدون أكير عدد من مواصفاتها منطبقة كثيراً على المشي. فالمشي هو الرياضة الأمثل لتشريح الإنسان. فلم يخلق الإنسان بأجنحة ليطير ولا بزعانف ليغوص أو ليسبح ولا بأربعة قوائم ليتقن الجري بسرعات عالية. ولقد خلق الإنسان ليقف ويتوازن على ساقين ويمشي. وبالتأمل في تشريح الجسم البشري ووظائفه نستنتج أن حوالي 70% من عضلات الإنسان مصممة على أن يتقن الإنسان المشي بشكل سوي ورشيق، ويحدث بطريقة متفردة تختلف عن طريقة كل المخلوقات في التنقل من مكان لآخر ولمسافات طويلة جدا.
وبالنسبة للرياضيين، تأتي أهمية المشي من عدة منطلقات، منها أن المشي رياضة تستمر مع الإنسان يحتاج إلى الانتظام عليها لحفظ صحته ولياقته وحيويته. وفي حين كان المشي من ضرورات الحياة لآلاف السنين -ولا يزال- ولم تخترع أو تنظم معظم الرياضات التنافسية إلا في عقود متأخرة جداً من عمر البشرية. وسبب آخر يدعو للاهتمام بالمشي للرياضيين أنه وعلى الرغم من أهميته وأهمية تعلم تقنياته فهو رياضة تحتاج إلى مزاج وتقبل نفسي خاص ينبغي التعرض له واكتسابه في سن مبكرة.
ومن معرفتي بكثير من الرياضيين، أجدهم يتقنون الجري وتصل سرعاتهم فيه إلى مستوى عالي، إلا أنهم يملّون من ممارسة المشي السريع ولا يحبون تجربته. فذات يوم شاركنا أحد مدربي نوادي اللياقة المشي مسافة 15 كيلومتر مشياً سريعاً، وفي نهاية النشاط قال "التحدي اللياقي في مشي المسافات الطويلة لا يطيقه كثير من رواد النوادي" وأتحدث هنا عن المشي السريع الذي ترتفع أثناءه ضربات القلب إلى قرب الحد الأعلى المسموح به حسب العمر وبما يكفي لتحسين اللياقة القلبية التنفسية.
وفي شأن آخر، كثيرا ما يتم التركيز في التناول الأكاديمي لعلوم الرياضة والتربية البدنية على الرياضات التنافسية وقوانينها، والأسرار العلمية خلف التميز والتفوق في المنافسات في حين أن ارتباط الرياضة بالصحة يدعو المتخصصين في هذه العلوم للمشاركة في نشر ثقافة المشي كرياضة تعزز الصحة في فئات أوسع من الأعمار، وعدم الاكتفاء بالرياضات التنافسية التي عادةً ما يقبل عليها الشباب في فئة عمرية مبكرة وبحماس كبير وغالباً ما ينقطعون عنها مع الاعتزال ومع تقدم العمر. والمدنية الحديثة والتطور العمراني وتقدم وسائل النقل هي المدنية التي أفرزت لنا الرياضات التنافسية وقدمتها كرياضة وأخذت بعدا نخبوياـ وهي المدنية التي تكاد تكون قد أجهزت على التنقل مشيا وصحبها تراجع رياضة المشي التي حفظت صحة البشر منذ فجر التاريخ وعبر الأجيال، وأصبح الناس يتساءلون؛ "هل المشي رياضة؟"
وكثير من الرياضيين كغيرهم لا يدركون أن المشي والمشي السريع من ضمن الرياضات التي لها تقنياتها ومهاراتها. وكثيراً ما يركز دارسو فيسيولوجيا الجهد البدني على الجري وغيره من الرياضات، رغم أن المشي السريع أو مشي السباق (Race Walking) يدخل ضمن الرياضات الأوليمبية. وهنا أدعو المتخصصين في هذه المجالات أن يعطوا هذه الرياضة حقها من الدراسة والتعليم، وإضافتها على مناهج التعليم في مجالات التربية البدنية بشكل بأفضل مما يحدث حاليا.
أوردت في أحد مقالاتي سبعة وعشرين سبباً يجعلنا نختار المشي من بين الرياضات لتشجيع أكبر قدر من الناس على ممارسته. وكل من هذه الأسباب والمبررات تنطبق على الرياضيين كغيرهم وبالذات بعد الاعتزال. وهنا يأتي الحديث عن المشي كحاجة بشرية مدى الحياة. فهي رياضة التأمل والتفكر والإبداع. وهي الرياضة الأمثل للتخطيط بذهن صافي، كما أنها الرياضة الوحيدة التي يسهل دمجها في الحياة اليومية، وهي أيضاً الرياضة الوحيدة التي تتيح استغلال الوقت. كما أنها رياضة تعلم التواضع وتشجع الاختلاط بالناس.
وختاماً، فالناظر إلى لاعبينا الذين مارسو "الرياضة" هواة ومحترفين والمتسائل عن صحتهم بعد الاعتزال يلحظ كيف أن تاريخ اللاعب وصوره التي التقطت له في الشباب لا تشفع له عندما يتجاوز الأربعين وعندما يصعب عليه وبكل المقاييس ممارسة الرياضة التي صنعت منه نجماً، بل يزيد الأمر سوءاً عندما نعلم أن بعضاً من رياضيينا الأشهر أصبحوا من أعضاء "نوادي الأمراض المزمنة" في سن مبكرة نسبياً رغم بقاء الكثير منهم في عالم التعليق والمتابعة والتحليل والنقد الرياضي وهم معرضون للإصابة بـ "أمراض الجلوس" بحكم الخمول وتقدم العمر والسائد من الممارسات الغذائية المنتشرة، ولا يستطيع بعضهم ممارسة المشي لبضعة مئات من الأمتار. فهذا الصنف من "الرياضيين" هو الأحوج لرياضة توفر لهم الحد الأدنى المطلوب من النشاط البدني لحفظ الصحة والوقاية من السمنة ومضاعفاتها ومن الأمراض المزمنة مع تقدم العمر. ولهذا وغيره من الأسباب أعود لتوجيه الدعوة بممارسة رياضة المشي إلى هؤلاء "الرياضيين" زائدي الوزن ومن لا يمارسون الرياضة فهم لا شك ضمن المعرضين للأمراض المزمنة.
ودمتم سالمين.
د. صالح بن سعد الأنصاري
@SalihAlansari
مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض
@SaudiHPC